اتركه ينتصر لوحده فللجسد لغته الخاصة القادرة على تجاوز اكبر المحن واكثرها وجعا، اترك لجسدك مساحته الكاملة ليحاور الروح ويتجاوز العقل والمنطق، دعه فهو سيد كل زمان ولغته وحدها قادرة على الانتصار في كل حروبها فمنذ الانسان الاول الى الانسان المعاصر حافظ الجسد على شيفراته وطوّرها واستطاع النهوض بعد كل سقطة حضارية او عاطفية، فالجسد لغة لا تعترف بالحدود فدع جسدك يكتب سيرته المعاصرة واتركه يخوض صراعاته التي لن تنتهي كما انتهاء اللغة، هكذا صرخ جسد اسامة الشيخاوي في عرضه الاول "عالحافة".
"عالحافة" عمل يطرح سؤال "هل ان الانسان في ظل التطور التكنولوجي وزمن السرعة لازال متشبثا بقيمه وانسانيته ام هو مقيد وراء قضبان الالة" والعمل كوريغرافيا لاسامة الشيخاوي وساعد في الاخراج اصالة النجار واداء صوتي فاطمة بن سعيدان ونص ودراماتورجيا اوس ابراهيم وسينوغرافيا صبري العتروس وموسيقى اصلية هاني بالحمادي وتصميم اضاءة ايهاب مندرة وملابس ريان سلام وصمم معلقة العرض شيماء ماتاو.
هل لانسان اليوم سطوة على الالة؟ ام العكس؟
هو واحد ومتعدد، هو انا وانت والنحن، جسده كتلة واحدة وشظايا متفرقة تماما كأفكارنا ومشاعرنا في العصر الراهن، اختار ان يكون الرقص لغته ليحمل جمهوره في رحلة الى غياهب الروح ويدفعه للتصالح مع افكاره والوقوف لساعة امام حقيقته، عرض موغل في الجرأة والصدق، قوامه جسد كوريغراف يعرف ان لغة الجسد لا تعرف الكذب، لساعة يعرّي اسامة الشيخاوي ظلمة الراهن، يطرح بجسده العديد من الاسئلة عن انسان اليوم، وينقد ظواهر عديدة يعيشها مجتمعنا التونسي في خصوصيته والمجتمعات البشرية في كونيتها وبين الخاص جدا والكوني تكون اسئلة الجسد وحركاته المتسارعة كايقاعات العصر الراهن.
هل انت انسان ام الة؟ هو السؤال المحوري الذي يدور في خضمه عرض "عالحافة" وبجسده ينقل الشيخاوي العديد من شيفرات اليوم، يتحرك الجسد بسرعة ويضع الكورغراف الة على عينيه ليعايش وجمهوره التقنيات الحديثة ومدى تاثيرها على دماغ الانسان وافكاره وقرراته؟ عن اليوم يطرح العرض مجموعة من الاسئلة ليشير الى علاقة العبودية بين الانسان والهاتف، فمن منّا لا يستعمل هاتفه مباشرة بعد استيقاظه صباحا؟ ومن من البشر لا يكون هاتفه اخر شيء يضعه قبيل النوم بلحظات؟، اية عائلة قادرة على منع طفلها من استخدامات الهاتف بكل تطبيقاته؟ ومن من الشباب لا يجلس الساعات الطوال خلف الحاسوب وسائل التواصل والالعاب الحديثة متناسيا التفكير واستعمال الذاكرة؟ ومن لا يعوّل على ذاكرة "غوغل" حدّ نسيان ذاكرته البشرية؟ كل هذه الافكار يطرحها الشيخاوي بجسده المنسجم مع ايقاعات موسيقية واضاءة خدمت العرض وشكّلت وسائل تقنية تساعد المتفرج لتفكيك العرض وقراءة شيفراته.
واحد متعدد، فرد في شكل جماعة، مجموعة تعيش في فردانيتها المقيتة هي نتيجة التطورات التقنية فبعد ان اصبح العالم قرية بات الانسان وحيدا منبوذا ويعيش في عوالمه الضيقة المفروضة عليه وهو يعتقد انه صاحب القرار والاختيار، بجسده وحركاته ولغته الصمّاء الناطقة باصعب الرموز يتحدث اسامة الشيخاوي عن انسان اليوم، هذا الفرد الوحيد والتائه والباحث عن ذاته وسط ملايين التطبيقات، بلباس سماوي اللون يطلّ الكوريغراف الى جمهوره ، لباس ما قبل العملية، لباس بعض الممرضين احيانا، فلا فرق بين انسان جسده مريض واخر روحه وافكاره تحت تخدير الالة والتكنولوجيا، فهل لانسان اليوم ذاكرة او ذكريات؟ كيف يتعامل انسان الراهن مع المكان؟ هل له علاقة مميزة مع ذاكرته؟ الذاكرة التي تشكّل ملامح المجموعة هل يفتقدها؟ فالذاكرة "ذاكرتي، ذاكرتكم، جميعنا هنا نتشارك نفس الذاكرة؟ ذاكرة البريكة في رمضان، ذاكرة شوارع المدينة؟ ذاكرة المجموعة توحدنا، نتشارك في الصف الطويل، في طريقة الحديث والتفكير، فانا انتم" كما يقول صوت فاطمة بن سعيدان المرافق لحركات الكوريغراف.
الجسد حمّال انسانية مفقودة ومدافع عن حريات تكاد تندثر
صوت الساعة مزعج، العقارب في حركاتها الدقيقة والمتسارعة تصنع ايقاع موسيقي جد مميز، الحركات الدقيقة مع اضاءة خافتة يتحرك في مجالها الجسد تطرح سؤال العلاقة بين الروح والجسد، تلك العلاقة الجدلية الازلية الفلسفية يطرحها الشيخاوي من منظور كوريغرافي فني.
يرقص ويتحرر من محيطه مرّة يؤكد ان للجسد القدوة ولا وجود لعلاقة بين الروح والجسد، فالجسد صاحب السيادة وهناك حركات الية يقوم بها جسدنا تغيب عنها الروح احيانا، ومرات ينتفض العقل ويصبح صاحب السيادة وتكون كل حركات الجسد محسوبة ميكانيكيا وكان هناك الة غامضة تحرك هذا الجسد ومع استمرارية الحركة والتفاعل بين الموسيقى ولغة الكوريغراف ينحاز جسد الراقص الى نظرية الموازاة النفسية الجسمية "Psycho-physical parallelism" وتعود جذور هذه النظرية إلى العالم "فشنر"، وهو أول من استخدم كلمة "موازاة"، وكذلك عالم النفس الألماني "كوهلر".
وتنطلق هذه النظرية من واقعة أساسية، وهي أنّ بين حالاتنا الشعورية وحالاتنا الجسمية علاقة وثيقة مطردة، وترى أنّ هذه العلاقة علاقة علية، وطبقاً لنظرية التوازي فإنّ كل ما هو عقلي ومادي يوجدان معاً على نحو يوازي فيه أحدهما الآخر، لكنهما غير متصلين معاً سببياً.
وهذه الجدلية منها يصنع الكوريغراف شحناته الابداعية ويحاول الهروب الى عالم لا يوجد به وقت، ففي هذا العالم المليء بالضغط و التوتر تصبح الثواني كالدقائق و الدقائق كالساعات و الساعات كالأيام المتشابهة المملة، من خلال هذا السياق الواقعي المرعب تبدئ رحلة المؤدى بالهروب نحو عالم مثالى كمحاولة لكسر القيود ليجد نفسه في مواجهة رحلة إفتراضية في عالم صنعته الآلة، فهو يهرب من حاضر مزعج الى عالم افتراضي يمحي انسانيته.
"عالحافة" اسم العرض الكوريغرافي، من عتبة العمل عنوانه تكون القراءة الاولى، "عالحافة" كلمة من اللهجة التونسية وتعني "القريب من الهاويةّ" ومع تقدم احداث العرض واكتشاف حكاية الشخصية سنفهم المغزى من العنوان، فجميعنا (انسان اليوم) نعيش على الحافة، نتعايش مع هاوية التكنولوجيا ونصارع حافة الدين والاخلاق والمنظومة الاجتماعية والاخلاقية، نعيش وجع يشبه المشي على حافة الاخلاقيات وصراع الحرية والتحرر، صراع الانا والمجموعة، صراع الاختلاف والفردانية، صراع الوجود من عدمه، عالحافة هو التوصيف الابرز لانسان اليوم والتوصيف الاصدق لحالة الشباب التونسي الباحث عن حريته واختلافه وسط منظومة اخلاقوية تنبذ المختلف، عالحافة عرض وتجربة تزعزع المفاهيم وتدعوا الانسان ليستيقظ ويكسر قيود الالة ويسترجع انسانيته ويعيش حريته حقيقة لا افتراضا.