مسرحية "عشاء الكلاب" ليوسف مارس: عمل ينقل بشاعة الانظمة السياسية ومدى قدرتها على طمس الإنسان قبالة المال

المسرح مرآة أخرى للحقيقة، قراءة نقدية ومسرحية في الكثير من الحقائق التاريخية من خلال إعادة تجسيدها انطلاقا من رؤية إخراجية مختلفة، وأداء ممثل مبهر، المسرح ملاذ للنقد وفرصة للمتمردين ليكتبوا التاريخ كما يرونه ويستشعرونه.

 

المسرح ملاذ للباحثين عن حقائق مطموسة وشائعات مجهولة ترسخت لتصبح وكأنها الحقيقة، وبين الحقيقة والضبابية، بين التاريخ والخيال يحمل يوسف مارس جمهور مسرحية "عشاء الكلاب" لفتح سراديب ذاكرة مغلقة ويدخل إلى تفاصيل "القصر الرئاسي" وينقل بعض جرائم العائلة الحاكمة.
عشاء الكلاب: الانتهازيين سبب خراب الأوطان
"ديو درام" هو نوع المسرحي، الثنائي منى شنوفي ونور الدين الهمامي اللذين قدما للجمهور شخصيات مختلفة، انطلاقا من الشخصيتين المحوريتين سعيد ونورة، منذ البداية يخبر المخرج جمهوره انه أمام حكاية متشظية عبر تقسيمه للركح الى أروقة منفصلة، في كل رواق توضع قطعة قماش او لباس ما، كأنها أدلة في ساحة الجريمة، موسيقى سيمفونية مميزة تختلف مع مشهدية الصورة، تناقض يعيشه المتلقي حتى يتماهى مع الشخصيات وحكاياتها بعد انطلاق الحوار.
"عشاء الكلاب" اسم المسرحية، عتبة غامضة وتحتمل الكثير من القراءات؟ فما معنى عشاء الكلاب؟ وأي كلاب معنية؟ أهي الكلاب الحيوانية أم الكائنات البشرية "المستكلبة"؟ أي عشاء مقصود؟ عشاء مادي ام حسّي؟ أسئلة تطرح منذ عتبة العمل، لتكون الإجابة عنها في اخر المسرحية، فالعشاء وجبة دسمة (كسكسي، روز بالفاكية، كمونية) والكلاب هي كلاب القصر الرئاسي التي ستتمتع بوجبة لذيذة هي عصارة اجتهاد ثمانية أعوام لسي سعيد مساعد الشاف"نجيب".
ثم تتصاعد وتيرة البوح بالحقائق ليصبح "اللحم" المادة الاساسية للعشاء وهو جثة سي نجيب رئيس الطباخين بعد تقطيعها وطبخها "وجدوا لديه مخطوط مذكرات، واغاني ثورية" جريمة نتيجتها الموت في القصر الرئاسي.
الكلاب أيضا هم باعة الوطن والانتهازيون، هم السياسيون والإعلاميون ورجال الأعمال وأصحاب القرار في عهد النظام السابق في حقهم وكل الانظمة تقريبا، هم أصحاب البطون المنتفخة التي امتلأت بوجبات دسمة وامتصت عرق الكادحين واحلام والتونسيين، هم الذين يفكرون فقط في ذواتهم وثرواتهم وارصدتهم البنكية مقابل تفقير الوطن وتجويع ابنائه.
هؤلاء هم "الكلاب" كما نعتهم الكاتب الاصلي "عشاء الكلاب" الذي وجدته نورة ومنه حاولت إيجاد بقية الحقائق التي لم تنشر في الكتاب، رحلة بحث مضنية عن الم التونسيين الذي ارتكبه النظام السابق وخاصة "كلابه" المسعورة المنطلقة في كل شبر تنهش لحم التونسيين واحلامهم "شر، شر، شر" وهي اولى الكلمات المنطوقة في المسرحية، وحركات الشخصية المضطربة والخائفة تكشف عن كثرة الكلاب في المساحة الجغرافية الصغيرة.
المسرح مساحة حرة للتذكير بجرائم النظام السابق
"عشاء الكلاب" جريمة عابرة للقارات، كتاب ينتحر صاحبه يوم خروجه من المطبعة، ينقل العديد من الجرائم التي حدثت في القصر الرئاسي "شهادات واعترافات" من رئيس التشريفات السابق يفتح أبواب الذاكرة عن حقائق متروكة في ركن بعيد لأكثر من عشرين عاما، تصل نسخة من الكتاب إلى "نورة" وهي تونسية مقيمة بفرنسا، يرعبها المضمون فتنزل إلى تونس بحثا عن حقائق أخرى ربما اقل حدة ووجعا، تبحث عن سي سعيد، لكنها تجد حقائق أكثر إيلاما من جرائم النظام التي ينفذها كلابه.
نورة وسعيد كلاهما ضحيتان للنظام، كل يحاول البوح بوجعه بطريقته المختلفة، اختلفا فكرا ومبادئ لكن وحّدهما الشعور بالقهر والظلم، شخصيتان معقدتان يفككهما ممثلان بارعان ليقدما للجمهور وصفة تمثيلية مغرية ومقنعة، فادوات الممثل كانت الرصيد الأول لنجاح المسرحية، كل منهما درس الشخصية وفكك شيفراتها وتقمصها الى حد التماهي والصدق والممثل في المسرح هو اللبنة الاولى لنجاح العمل من عدمه.
في المسرحية وظف المخرج ثنائية الإضاءة والموسيقى كعناصر سينوغرافية تسند أداء الممثل وتطوّره، الألوان الحمراء مع الرمادي والأسود هي الأكثر وضوحا لعين المتلقي، ألوان خانقة كانها تعكس دواخل الشخصيات، طريقة توزيع الإضاءة اعتمد المخرج اللعب على ثنائيتي النور والظلمة، فالشخصية المتحدثة يسلط عليها كل الضوء وتوضع الأخرى في ظلام دامس، عملية توزيع الاضاءة هي الأخرى تحفز تركيز المتلقي وتجعله يقرأ الشخصية ويراقب كل تفاصيل الحركة والكلمة.
"عشاء الكلاب" مسرحية متفرعة، تنطلق من نقد المنظومة السياسية لتتفرع الى نقد المنظومة الشغلية، فالطباخ سعيد استطاع الوصول إلى مطبخ القصر الرئاسي عن طريق الواسطة (سي سعيد، سقط في الكتابي، لكنه جاء الأول على الممتحنين بواسطة عبارة سرّي للغاية)، تنقد أيضا مدى تدخل أصحاب النفوذ من وزراء في الامتحانات والمناظرات.
تنقد العلاقات المجتمعية المتوترة والسرقة الدائمة حسب تسلسل النفوذ (تحصلت على 21مليون فقط تعويض البقية سرقوها الصحاح) كما يقول الطباخ في اجابة عن قيمة الاموال التي حصل عليها قبالة (الثمنية اعوام في القصر تنساهم)، مسرحية مشحونة بالنقد والسخرية، عمل يرشح بألم المظلومين، تفوح منه رائحة عطنة للمنتهزين الذين حاولوا بيع الوطن فقط لارضاء ارصدتهم البنكية.
"عشاء الكلاب" مسرحية من اخراج يوسف مارس واداء نور الدين الهمامي ومنى الشنوفي، هي صرخة للانتصار للانسان ورفض كل المظالم السياسية للحكام مسرحية تبرز عنف النظام السابق في تعامله مع ابناء الشعب وتدعو الى اعادة قراءة التاريخ ومحاولة تفكيك طلاسمه الغامضة على الركح.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115