في أفلام وثائقية من إنتاج وكالة إحياء التراث: موروث حضاري يتحدى صمت المكان وصوت النسيان

ضد النسيان يبقى التوثيق صمام الأمان لحفظ الذاكرة وصون خصوصيات الهوية في زمن الآلات والعولمة. وقد

اختارت وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية أن تكون السينما الوثائقية محملا وقناة اتصال وتواصل للتعريف بالتراث المادي وغير المادي وتثمين مميزاته ومظاهر تفرده...
نظمت وكالة إحياء التّراث والتنمية الثقافيّة يوما إعلاميا مفتوحا بالموقع الأثري بأوذنة للترويج للأشرطة الوثائقيّة التي أنتجتها في إطار تثمين التّراث الثّقافي المادّي وغير المادّي ضمن مشروع «تونس أرض الحضارات: تراث ثقافيّ غنيّ ومتنوّع». ويهدف هذا المشروع إلى التعريف بالتراث والتوثيق له عبر المحامل الرقمية والسمعية البصرية. وفي كلمتها أكدت المديرة العامة السابقة لوكالة إحياء التراث آمال حشانة ضرورة نفض الغبار عن عناصر التراث المنسية والمهمشة على أهميتها حتى تجد صداها في مسالك الحماية والتثمين. وذكرت بأن التراث اللامادي يتميز بالهشاشة باعتبار مهاراته مهددة بالاندثار في حال انقطاع توارث هذه الحرف اليدوية بين الأجيال. «
"القرميد التقليدي بتستور"
في تستور تطل الأندلس بوجهها الصبّوح من وراء الأبواب والشبابيك لتحدث الزائرين عن روعة قصور الحمراء وغرناطة ولتنثر بعضا من عبق الحدائق الأندلسية الغناء . لقد أتى الموريسكيون إلى تستور في هجرة قسرية وفي قلوبهم حسرة وفي عيونهم دمعة، ففاضت ذاكرتهم الجريحة وذكرياتهم المثقلة بالأحزان على المكان لتتجسد بصمة الأندلس ورائحتها ونكهتها في المعمار والعمارة، العادات والتقاليد، المطبخ والأطباق ... منذ زمن بعيد بقيت تستور تنضح بالحنين إلى زمن الأندلس الجميل.
ولئن تعج تستور بالمعالم والعناصر التراثية التي تشكل مادة خصبة للبحث وللتصوير وللتوثيق على غرار ساعتها الشهيرة التي تدور عقاربها عكس المعتاد، فقد اختار المخرج منصف بسباس أن يسرد حكاية القرميد التقليدي بتستور الذي يعكس إرثا حضاريا وموروثا ثقافيا ضاربا بجذوره في خصائص العمارة المورسيكية. في فيلم «القرميد التقليدي بتستور» يقتفي المخرج على امتداد 13 دقيقة أثر هذه الحرفة اليدوية بامتياز والذي تمارسها قلة قليلة في تستور في تمسك بهذه المهنة المتوراثة بالرغم من نقص الإمكانات وتواضع مصادر الدعم. تقترب الكاميرا من الأيادي المنغمسة في عملها ومن الوجوه الكادحة لتعكس سر المحبة التي يترجمها هؤلاء الحرفيون إلى قرميد يميز تستور ويذّكر بمعمار الأندلس أين ترك العرب مع سقوط غرناطة أشعارهم وقصورهم وورود حدائقهم ... «
"صناعة الفخار بالبرامة"
إلى قرية «البرامة» في سليانة سافرت بنا كاميرا المخرج منصف بسباس إلى حيث تكتب النساء بالطين قصة كفاح من قبل شروق الشمس إلى مغيبها. في يومياتهن البسيطة كانت صناعة الفخار هي المؤنس في الوحدة ومصدر الدخل للنساء الريفيات الذي يعتصرن الطين بين أيديهن ليتحول إلى أوان تنضح على أوزان أهازيج البادية المفعمة بالهوية و شغف الحياة. يسرد الفيلم طيلة 13 دقيقة حكاية معارف يدوية تتوارثها الحفيدات عن الجدات كحزمة الوصايا وصرّة المصوغ بمنتهى الحرص والحب. تتبع الكاميرا إيقاع الماء الذي يسقط بردا وسلاما على الطين اليابس فيتحول إلى عجينة ملساء بين أنامل فنانات بالفطرة ومبدعات بالسليقة يطوعن الطين على المقاس في أحجام وأشكال وأبعاد مختلفة. بالرغم من رحلة العناء وتجشم الشقاء في البحث عن الحطب ونقل الماء، تتمسك النساء بامتلاك خصوبة الأرض بين أصابعهن التي تعجن الطين كالخبز ليكون فخار البرامة فخر نساء قرية البرامة. «
"صناعة السرج والتراث المتعلق بالفروسية"
منذ عصر الجاهلية كان الخيل «مربط فرس» الشعر والمعلقات وصديق الفارس العاشق في ترحاله ووقوفه على الأطلال في بكاء على الحبيبة والديار... وفي تونس لا يزال الفرسان يحافظون على علاقة الحب الوطيدة والوفاء الكبير لخيولهم العربية الأصيلة . في ولايات الشمال الغربي والجنوب التونسي على وجه الخصوص لا تنفصل عروض الفروسية عن مراسم الاحتفالات وطقوس الأفراح بل تخصص مهرجانات بأكملها في فن الفروسية. وقد اختار فيلم «صناعة السرج والتراث المتعلق بالفروسية» للمخرج مروان المولدي الذي اممتد على 13 دق أن يسلط الضوء على حرفة صناعة السرج اليدوية والمهددة بالاندثار بسبب عزوف الأجيال الجديدة عن تعلم هذه المهنة الخصوصية التي تتطلب دقة وهندسة في الأشكال والألوان.
وقد جال الفيلم في أكثر من ولاية انطلاقا من سوق السّراجين في العاصمة وصولا إلى ولاية توزر في إبراز لمهارات صناعة السرج وما يتعلق به من تراث في فنون الفروسية والشعر الشعبي وأزياء الفرسان... جاء هذا الفيلم في صورة سينمائية مؤثرة وممتعة أضفت على الشاشة شاعرية ورمزية تمتد من وقع حوافر الخيل على الأرض لتربت على السرج فوق ظهورها وتعانق جموح الفرس في انطلاقها نحو الأفق البعيد. «
"القصرين أرض التاريخ"
في القصرين تحدث الجبال عن ملحمة الرومان في سالف العصر والأوان في تعمير الأرض خصوبة وآثار... لقد بقيت مسارحهم ومعابدهم وحماماتهم ومعاصرهم وقلاعهم تحدث عنهم وتوثق لمرورهم من المكان الذي بقي مرسوما كالوشم على الجسد في مواقع ومعالم عصية عن النسيان. عن طريق ابنة القصرين مريم اختار المخرج مروان المولدي أن يصطحب جمهوره في رحلة مشوقة بين مدن ولاية القصرين انطلاقا من حيدرة مرورا بتلابت وتالة والقصرين وصولا إلى سبيبة وسبيطلة على امتداد 26 دقيقة. في كل مرّة تتوقف «مريم « لتروي حكاية المعلم أو الموقع الذي بقي شاهدا على عراقة القصرين التي تحتفظ بالجزء الأكبر من آثار الجمهورية التونسية. هي «سيليوم» الصلبة كالصخر في نحت حضارتها وبناء ثقافتها لتتخذ من الجبال حصنا ضد الأعداء ولتزرع أشجار التفاح والزيتون ليفوح عطر التاريخ من ثناياها وحقولها ودروبعها البعيدة. إلى اليوم لا تزال القصرين تحتفظ بالكثير من أسرارها ولا يزال لديها ما تقول من الحكايات والأساطير عن مدينة تهدهد الآثار كالأحلام.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115