في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية: "العودة" من السينغال... سخرية امرأة من السلطة والهجرة!

في قلب للمعادلات السياسية والاقتصادية

يرفض المسرح الإفريقي أن يكون هامشا على الخريطة حيث أصبح اليوم مختبرا فنيا وفكريا يعيد قراءة العالم من زاوية إفريقية أصيلة وأصلية في رؤية قادرة على مساءلة الواقع وإعادة تششكيل الذاكرة الجماعية. في هذا السياق، تخرج مسرحية "باك"(العودة) للمخرجة يرينجر بروكس من قلب السينغال لتطرح أسئلة القارة كلها عن الهجرة والسلطة والانتماء ومكانة المرأة في سخرية ذكية تكشف هشاشة الثوابت والمسلمات.

يسجل المسرح السينغالي حضوره في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية مراهنا على مسرحية "باك" (العودة). في قاعة "الريو" بالعاصمة، استقطب العرض جمهورا غفيرا استحسن العرض لأنه لا يقدّم دراما سوداء بقدر ما فتح باب السخرية اللاذعة حول قضايا المجتمع السينغالي والقارة الإفريقية في المطلق.

هل هي امرأة عائدة؟ أم ثروة منشودة؟

منذ اللحظة الأولى، تكشف مسرحية "باك" عن قالبها الساخر. إنها سخرية اجتماعية لاذعة تُعيد مساءلة ثلاث معضلات تهز المجتمع السينغالي اليوم: الهجرة، والسلطة، والتمييز الجندري. لكن الأهمّ من ذلك أنّها تُقدّم هذه الأسئلة بوعي جمالي، وبحرفيّة إخراجية تجعل الجمهور يعيد النظر في المسلمات من حوله.
تسرد حكاية المسرحية عودة "عايدة" إلى مسقط رأسها بعد عشر سنوات من الغياب. يفترض الجميع أنها قد أصبحت ثرية بعد الهجرة، ويليق بها حفل استقبال. فتستعد البلدة رغم محدودية الموارد المالية لاستقبالها بحماس سريالي في محاولة لإظهار المجاملة والمحبة. هنا تتجلى المفارقة المركزية: هل تستقبل البلدة امرأة عائدة؟ أم تستقبل «ثروة» تتخيّل أن بوسعها إنقاذ الجميع؟
في خضم هذه الاستعدادات، يتشكّل خطاب مزدوج ما بين خطاب يُقال في العلن، وخطاب آخر يُقال في الخفاء. ولذلك فإنّ المسرحية لا تعالج العودة بوصفها حدثا، بل بوصفها مرآة تكشف هشاشة المجتمع، حيث تُصبح العودة اختبارا للولاء، للنفاق، وللخيبات المتكررة.

الهجرة… سؤال الهوية الممزّقة

لا تسقط المسرحية في سردية «المهاجر الناجح» التي كرّستها وسائل الإعلام، بل يعيد طرح مفهوم الهجرة باعتبارها جرحا مفتوحا، وتجربة تتقاطع فيها الرغبة في التحرّر مع الخوف من الفشل، والبحث عن الذات مع فقدانها في الوقت نفسه.
من خلال قصص شخصياتها، تسلّط "باك" الضوء على ثلاثة مستويات من مأساة الهجرة، أولها ضغط توقّعات الأسرة والمجتمع بعودة المهاجر في أحسن حال وكأنّ النجاح واجب لا خيار. وثانيا، الخجل من الفشل حيث يعود كثيرون بوجوه متعبة وتجارب قاسية . وثالثا، غياب السرديات النسائية حيث تكشف المسرحية غياب النساء المهاجرات عن الذاكرة الجماعية، رغم أنّهنّ يشاركن في الرحلة نفسها، ويواجهن أعباء مضاعفة.
في اعتماد هذه المقاربة، منحت المخرجة عرضها عمقا إنسانيا ، يتجاوز الطرح الاجتماعي ليتحول إلى سؤال وجودي عن معنى الانتماء.

السلطة وظلّ الحاكم الهش

على ركح مشحون بالأسئلة عن السلطة، يجسّد رئيس البلدية صورة السلطة المصغرة بإخفاقاته ومحاولاته الدفاعية، ، تلك التي لا تمتلك القدرة على التغيير، لكنها تمتلك القدرة على التجميل. يكتب خطابا مضخما بالصفات الوهمية، ويحرص على إظهار البلدة كأنها على أبواب معجزة.
لكن "باك" لا تُدين السلطة مباشرة، بل توظّف السخرية لتكشف بنيتها العميقة. هي سلطة تقوم على الخوف من الناس وبالتالي إخافتهم، أكثر مما تقوم على خدمتهم. وفي هذا الخيار الدرامي والرمزي، تخفي المسرحية نقدا أشمل للأنظمة السياسية في إفريقيا التي تترنح فيها الديمقراطية وتتأرجح بين الوعد والخيبة.
وقد حققت السينوغرافيا في "باك" توازنا نادرا بين البساطة والدلالة. في توظيف لركح فقير الديكور ومحدود الإمكانات، جاء المقام مناسبا للمقال وغنيا بالإشارات والإحالات والدلالات عن المقصود حتى دون وجود منطوق.

حضور المرأة بين التمثيل والتجاهل

على ركح "باك" تحتل "عايدة" البطولة وتمسك بخيط الأحداث لتتخذ وظيفة رمزية ذات بعدين، فهي امرأة مهاجرة تستعيد مكانها بعد غياب، وهي امرأة تتحمّل أوزاز النظرة الاجتماعية التي تُعيد تشكيل هويتها وفق ما يريده الآخرون. ومن خلال الحوارات المتداخلة، تُعيد المسرحية الاعتبار للنساء اللواتي هاجرن، وعُدن، أو لم يعدن. تتعدد السرديات المتوازية التي تُروى بأصوات مختلفة، تعكس تجارب حقيقية غالبا ما تطمسها الرواية الرسمية.
يتميز الممثلون في أغلب عروض إفريقيا السمراء بصدق كبير وحرفية في الأداء لا تتعسف على الجسد أو النص، وهو ما أكده الممثلون في مسرحية "باك " من السينغال الذين تحركوا على الخشبة وكأنهم نسجوا من مادة النص نفسه. ومابين لغة الجسد ولغة الحوار، أضفى الأداء انسجاما داخليا وإيقاعا صوتيا مضبوطا أبرز التناقضات الدرامية ومنح العرض ديناميكية متماسكة.
لا تخصّ مسرحية "باك" السينغال فقط ، إنها تتحدث عن العالم العربي، وعن إفريقيا، وعن كلّ مجتمع يواجه المواجهات الكبرى مع الهوية والسلطة والهجرة.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115