بأحرف من نور، فلقد جعل الفاضل الجعايبي من الركح فضاء للتجريب، ومن المسرح مرآة لتحولات المجتمع. هذا العام واحتفاء بمسيرته المتميزة، أعلنت جائزة الدكتور صلاح القصب لسنة 2025 عن تتويج المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي. لم يكن الخبر مفاجئا بقدر ما كان امتدادا طبيعيا لمسيرة رجل ظلّ لأكثر من خمسين عاما يقرأ الواقع بعين ناقدة ليصنع منها مشاهد تُرى وتُناقش ولا تُنسى.
وقد اختار القصب الإعلان عن جائزته السنوية من تونس، إيمانا منه بدور أيام قرطاج المسرحية في دعم مشروع الحداثة والتنوير في المسرح العربي. وسبق أن توّج مسرحيون تونسيون بهذه الجائزة، آخرهم منى نور الدين ومنصف الصايم.
احتفاء برائد التجديد في المسرح التونسي
تقديرا لمسيرته الطويلة وإسهامه العميق في تجديد المسرح التونسي والعربي،
قررت الأمانة العامة لجائزة الدكتور صلاح القصب إسناد جائزة سنة 2025 للمخرج المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي. واعتبرت أنّ" فاضل الجعايبي يعتبر من أبرز المخرجين العرب الذين اختطّوا مسارا خاصا، جعل من "الآن وهنا" محورا لرؤيته المسرحية. وقد عبّر مسرحه عن التحولات الاجتماعية والسياسية في تونس."
ولد الفاضل الجعايبي من رحم الأسئلة التي عاشتها تونس في سبعينيات القرن الماضي. منذ أن وضع قدمه في "مسرح الجنوب" بقفصة. لم يتعامل مع المسرح كفن جمالي محض بل كبوصلة لالتقاط ما يرتجّ في المجتمع: غضب الشباب، هشاشة الأفراد، انكسارات السياسة، وتحوّلات الإنسان التونسي في رحلة كبرى لم تنتهِ بعد.
نسج مسارا يخصه وحده في اقتراح مسرح لا يطمح إلى التجميل ولا يهادن ولا يطلب التصفيق بقدر ما يطمح إلى التأثير ثم التغيير. في كل أعماله ظل وفيا لمبدأ الفنان الذي يصر على أن يسمّي الأشياء بأسمائها، وأن يعرّي الواقع ليفهمه الناس… أو ليحاولوا تغييره!
وفي افتتاح أيام قرطاج المسرحية مساء السبت المنقضي بقاعة الريو ، قدّم الفاضل الجعايبي آخر أعماله صحبة رفيقة دربه جليلة بكار في الكتابة. يحمل هذا المشروع المسرحي عنوان: "ال (حلم) … كوميديا سوداء" ، وفيه يواصل الفاضل الجعايبي البحث والاستقصاء عن علل مجتمع مهزوز ومأزوم.
من " الجعايبي" إلى "القصب"… جسور بين مدرستين
في الضفة الأخرى من العالم العربي، عاش رجل آخر هو الدكتور صلاح القصب، أحد كبار روّاد "مسرح الصورة" في العراق. منذ 1945، عام ميلاده، وهو يرسم على الخشبة لوحات يتجاور فيها الشعر بالفكرة، والضوء بالقسوة. في أروقة كلية الفنون الجميلة ببغداد، صنع أجيالا كاملة من المخرجين، وترك بصمته لدى كل من عبر دربه.. ومنذ الدورة الأولى لأيام قرطاج المسرحية سنة 1983، يعود صلاح القصب إلى تونس كما يعود الممثل إلى خشبته الأولى.
وحين أعلن صلاح القصب من تونس عن منح جائزته السنوية للفاضل الجعايبي، كان المشهد أشبه بلقاء بين مدرستين، بين تجربة تونسية شغوفة بالواقع وتجربة عراقية شغوفة بالصورة، بين مخرج يقرأ المجتمع ومخرج يكتب عبر الضوء، بين فنانين مهّد كلاهما، كل بطريقته، لمسار حداثي في المسرح العربي.
في منتدى أيام قرطاج المسرحية:
الفاضل الجعايبي يتساءل عن جدوى المسرح
لأول مرّة في تاريخ أيام قرطاج المسرحية، ينتظم منتدى مسرحي دولي موضوعه : "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"، وذلك على امتداد ثلاثة أيّام (24/25/26 نوفمبر) في التقاء بين ثلّة من الكتّاب المسرحيّين والمخرجين والأكاديميّين في مجالات المسرح والفنون والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة من تونس ومختلف دول العالم. يهدف هذا الملتقى إلى التفكير المشترك والبحث العميق في مكانة الفن المسرحي من خلال محورين متكاملين: "التجربة الذاتيّة والعملية للفنان باعتباره شاهدا على زمنه " و"سعي الفنّان لمواجهة تحديات تموضعه الفعّال داخل السياق الاجتماعي".
وقد استضاف المنتدى في يومه الأول المخرج الفاضل الجعايبي، الذي أكد " أنّ همّه الأول، منذ بداياته، كان أن يكون شاهدا على زمنه. فصانعو المسرح عبر التاريخ لم يفعلوا سوى ذلك: سوفوكليس وإسخيلوس تحدثا عن عصرهما، وما تزال أصداء أسئلتهما تتردد حتى اليوم. شكسبير كان ابن بيئته، وكذلك بريشت. ثم طرح الجعايبي السؤال المؤرق: هل يستطيع المسرح اليوم أن يغيّر أعماقنا، أن يبدّل وعينا الباطن، وأن يروّض ما يسكننا من غريزة وحيوانية؟ ويقول: "أشعر بالامتنان لمن سبقونا إذ أسسوا هذه اللعبة الذهنية الرفيعة، لكن لا يسعني إلا أن أتساءل: هل كل هذا مفيد؟ هل يستطيع المسرح أن يبدّل ما نحمله في دواخلنا؟ جوابي: لا. المسرح يوقظ وعيا، نعم، لكنه لا يغيّر جوهر الإنسان. علينا أن نتوقف عن خداع أنفسنا بادعاء قدرته على تحويل الطبيعة البشرية. فلماذا نستمر إذن؟ ربما لأجل نوع من التطهير، أو الحاجة إلى علاج رمزي لا نعرف تفسيره."
واختتم الفاضل الجعايبي مداخلته باستعارة زمنية ورمزية حيث قال: "أرى أننا نعيش عصرا يشبه عصر النهضة الأوروبية، مرحلة انتقالية عميقة، عالم ينهار على كل المستويات. من عاش مثلي السبعينيات في تونس يدرك حجم التحولات. كل شيء تبدل: القيم، السلوك، الوعي، صعود الذكاء الاصطناعي...وحتى معنى أن نكون بشرا. أصبحنا كائنات تستهلك وترفض، بحساسية مهتزة. فلماذا نمارس المسرح إذن؟ هذا السؤال، قبل أن يكون فنيا أو سياسيا، هو سؤال أنثروبولوجي، أضعه أمامكم."