وطن صنع الاستثناء انطلاقا من هذه الجملة الأولى، التي صافحت آذان المستمعين سنة 1938، وُلدت علاقة عميقة بين الصوت والذاكرة، بين الأثير والوجدان، بين التعليم والفكر. ثمانية وثمانون عاما بعد انطلاق البثّ الأول، ما تزال الإذاعة التونسية قادرة على أن تُعيدنا إلى الذاكرة والهوية وإلى المدرسة التي كانت رمز التنوير الوطني ومختبر الهوية الحديثة. ومن هنا تأتي السلسلة الوثائقية الإذاعية "أزمنة الطبشور" من إنجاز آمال شقشوق في الإعداد والنص والقراءة لتمثل وثيقة مسموعة ملهمة ومهمة لاتكتفي بسرد تاريخ التعليم في تونس بل تحفر في طبقاته العميقة، في تلك المسافة بين السبورة والدولة، بين الحلم والإصلاح، بين مدرسة الماضي ومدرس الغد.
"أزمنة الطبشور" هكذا اختارت آمال شقشوق أن تعنون سلسلتها الوثائقية التي تتفرع بدورها إلى أربع حلقات، تمتد كل حلقة إلى حوالي ساعة من الزمن. والطبشور هنا ليس أداة كتابة بل أثر الذاكرة على السبورة. هو الغبار الأبيض الذي يعلو يد المعلم، لينحت ملامح المدرسة التونسية و ليكتب الدرس من جديد. ربما تغيّرت السبورة إلى شاشة، والطبشور إلى لوحة رقمية، لكن السؤال نفسه مازال قائما: كيف نعلّم أبناءنا ؟ كيف نصلح التعليم؟
" أزمنة الطبشور... زمنُ المسعدي"
حملت الحلقة الأولى من السلسلة الوثائقية "أزمنة الطبشور" عنوان " أزمنة الطبشور... زمنُ المسعدي" لتهتم بالإصلاحات التربوية الكبرى التي عرفتها تونس ما بعد الاستقلال مع قراءة في نتائجها بالأرقام والتحليل. وتشير هذه الحلقة إلى أنّ المدرسة التونسية لم تكن مجرّد مؤسسة تعليمية، بل كانت عبر العقود أداة لإعادة تشكيل الذات الوطنية. منذ إصلاح 1958 بقيادة محمود المسعدي، كانت المدرسة مشروعا سياسيا وفلسفا في آن واحد راهنت عليه دولة الاستقلال لتحرير الوطن من آثار الاستعمار، ولتأسيس مجتمع يؤمن بالعقل والمعرفة والعدالة.
وقد راهن وقتها وزير التربية القومية محمود المسعدي على التعليم باعتباره "رسالة حضارية"،وكان يدرك أن بناء المدرسة لا يقلّ صعوبة عن بناء الدولة. فقد ورثت تونس بعد الاستقلال واقعا هشّا: مدارس فقيرة، معلمين متطوعين، ازدواجية لغوية وثقافية.... ومع ذلك، كان الإيمان بالمدرسة أقوى من كل المعوقات.
في تلك المرحلة التأسيسية ، كانت "السبورة" أول مساحة حرّة يكتب عليها الجيل الجديد كلمة تونس.
"أزمنة الطبشور... زمنُ مزالي وآخرين"
في السبعينيات والثمانينيات، دخل التعليم مرحلة جديدة مع محمد مزالي، الوزير والمفكر الذي جمع بين المثقف والسياسي. كانت البلاد حينها تخوض معركة التنمية، وكان التعليم وسيلتها الأساسية للرقي الاجتماعي. ارتفعت أعداد المدارس والتلاميذ بشكل غير مسبوق، وبدأت الدولة تعلن أن "المدرسة للجميع".
وفي الحلقة الثانية من السلسلة الوثائقية الإذاعية "أزمنة الطبشور" تم تسليط الضوء على التعديلات الكبرى التي أدخلت على النظام التربوي التونسي بين عامي 1969 و1987 ونسب أغلبها إلى محمد مزالي الذي تولى حقيبة التربية في ثلاث مناسبات.
لكن خلف هذا النجاح الكمي، بدأت التصدّعات النوعية. تحوّلت المدرسة إلى فضاء مزدحم بالأسئلة: هل التعليم أداة للحراك الاجتماعي أم وسيلة للضبط السياسي؟ هل اللغة أداة للتحرر أم أداة للهيمنة الثقافية؟ وفي خلفية المشهد، جاء قرار تعريب الفلسفة سنة 1986 كرمز للتوتر بين التيار العقلاني والفكر المحافظ، وبين الدولة التي تخشى الفكر الحرّ، والمدرسة التي تنجب المعارضين.
وقد تم الاستشهاد في هذه الحلقة بوثائق سمعية نادرة للرئيس الحبيب بورقيبة وللوزراء الهادي نويرة ومحمد مزالي وادريس قيقة ومحمد فرج الشاذلي، إلى جانب شهادات مختصين عاصروا تلك الإصلاحات ودرسوها.
في تلك الحقبة، لم تعد السبورة نقية ومحايدة تماما... فقد كُتبت عليها صراعات السياسة بأقلام الطبشور.
"أزمنة الطبشور... زمنُ الشرفي"
عام 1989، برز اسم محمد الشرفي، أستاذ القانون والمناضل الحقوقي، وزيرا للتربية. كان ذلك حدثا ثقافا بامتياز، لأن الشرفي لم يكن إداريا أو سياسيا، بل صاحب رؤية فلسفية حول معنى التعليم في مجتمعٍ ديمقراطي. في إصلاحه التربوي سنة 1991، حاول أن يجعل من المدرسة فضاءً للحرية والمواطنة، وأن يُدخل القيم الكونية وحقوق الإنسان في البرامج.
وفي الحلقة الثالثة من السلسلة الوثائقية الإذاعية "أزمنة الطبشور" تم الكشف عن ظروف تعيين محمد الشرفي على رأس وزارة التربية وهو غير المنتمي الى الحزب الحاكم، ليشكل استثناء حينها مع الوقوف على أبرز ملامح مشروعه الإصلاحي. لئن كان مشروع الشرفي - رغم الجدل الذي أثاره – محاولة مهمة للمصالحة بين المدرسة والحري، فإنّ هذه الجرأة الفكرية اصطدمت بواقعٍ اجتماعي مازال أسير البنى التقليدية، وبنظام سياسي يضيق بالاختلاف.
وقد أتت حلقة "أزمنةُ الطبشور... زمنُ الشرفي" على سمات القانون التربوي لسنة 1991 ومدى تقبل الساحة السياسية للإصلاح، سلطة ومعارضة دون إغفال تقييمه، في استعانة بمختصين عاصروا اللحظة، وفيهم من كانوا شركاء فيها.
في ذاك الزمن الجدلي، كانت السبورة رجع صدى لنبض الطبشور في توقه إلى الانعتاق والتحرر بالرغم من ضغط أصابع تكتم أنفاسه.
"أزمنة الطبشور ... زمنُ مدرسة الغد"
في الحلقة الرابعة والأخيرة من السلسلة الوثائقية الإذاعية "أزمنة الطبشور" تم "التطرق للقانون التربوي الأخير الصادر في عام 2002. كما تم استعراض ظروف هندسة الإصلاح المعروف تحت مسمى مشروع مدرسة الغد، وإلى أبرز ملامحه، إضافة إلى قراءة في نتائجه مع مختصين، فيهم من كان قريبا جدا من هذا الإصلاح."
في مطلع الألفية الثالثة، جاء مشروع مدرسة الغد (2002) ليعلن دخول التعليم التونسي عصر العولمة. كان الشعار أن تصبح المدرسة "مواكبة للتحولات"، لكن التحول الأكبر كان في المجتمع نفسه حيث ارتفعت نسب المدارس والدروس الخصوصية، وتراجعت صورة التعليم العمومي...لقد حاول الإصلاح أن يواكب الرقمنة، لكنه لم ينجح في مداواة جوهر المدرسة وروحها التي بدأت تفقد معناها الرمزي.
اليوم، يبدو وكأنّ السبورة القديمة التي كانت تُكتب بالطبشور أكثر نفعا ومردودية من الشاشات الذكية.
الإذاعة... حين تؤرخ الذاكرة بالصوت
بعد مجهود شاق عمل مضني، وبعد حوالي سنتين من البحث والتحقيق والتدقيق وجمع الشهادات... رأت السلسلة الوثائقية الإذاعية "أزمنة الطبشور" من إنجاز آمال شقشوق النور وهي متاحة للاستماع المجاني على موقع الإذاعة الوطنية بخانة الوثائقيات وعلى اليوتيوب. تتجاوز سلسلة "أزمنة الطبشور" حدود التوثيق التقليدي لتصبح تجربة سمعية وثقافية متكاملة وأداة لإحياء الذاكرة وإعادة رسم اللحظات التاريخية التي شكلت مسار التعليم في تونس. تمثل هذه السلسلة وثيقة فكرية حية، فبين أصوات بورقيبة والمسعدي ومزالي والشرفي، وبين شهادات الأساتذة والباحثين: المنجي عكروت، عبد الجليل بوقرة، حمادي بن جاب الله، أحميدة النيفر، عبد الستار السحباني، ومراد بهلول... يتشكل سجل سمعي حيّ لتاريخ الإصلاح التربوي في تونس.