التلوث والوضع البيئي، بل هي أقرب إلى كونها مؤشّرًا ودليلًا على انسداد أفق اجتماعي شامل، وصورة مصغّرة عن العلاقة المأزومة بين الدولة والمجتمع، ليغيب الفعل ويحلّ عوضًا عنه الخطاب والبلاغة، وتُستبدل القرارات بالتفسير والبحث عمّن يتحمّل المسؤولية.
فمنذ بداية شرارتها منذ حوالي الأسبوعين، حينما تعرّض عدد من التلاميذ بإحدى المؤسسات التربوية للاختناق بسبب الانبعاثات الكيميائية من المجمع الصناعي وفق مصادر محلية، ونُقلوا إلى المستشفى في أواخر سبتمبر الفارط، اختارت السلطة المركزية التونسية، التي غاب ممثّلوها المحليون والجهويون عن المشهد، أن تستدرك الأمور وتتدخّل مباشرة في الملف على أمل احتوائه قبل أن يتصاعد.
فكان لقاء الـ30 من سبتمبر الفارط بقصر قرطاج، والذي جمع الرئيس قيس سعيّد بكلّ من وزير الصحة ووزيرة البيئة ووزير الصناعة والطاقة والمناجم، للحديث عن ملف التلوث البيئي في قابس، الذي حمّل فيه الرئيس كامل المسؤولية للدولة، واعتبر أن الخيارات ارتقت لمرتبة الجريمة، بل ووصف ما يحدث في قابس بأنه «اغتيال بيئي».
خطاب الرئيس، الذي حمّل الدولة والحكومات السابقة مسؤولية ما بلغته الأوضاع في قابس، اقترن أيضًا بقرار رئاسي تمثّل في تكليف الوزراء الثلاثة بإرسال فرق فنية إلى قابس لإجراء التحاليل العاجلة وتحديد المسؤوليات. لكن ما تلا الاجتماع لم يكن سوى استمرار للوضع دون أي تغيير ملموس على الأرض، ممّا نجم عنه تصاعد التحركات الاحتجاجية خلال الأيام العشرة الفارطة لتبلغ يوم الـ11 من أكتوبر الجاري حدّ محاولة الدخول عنوة إلى المجمع الكيميائي، وإغلاق الطرق الرئيسية، واندلاع اشتباكات محدودة مع قوات الأمن التي استعملت الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.
وهنا مرة أخرى تتدخل السلطة المركزية بهدف احتواء الأوضاع ومعالجة الاحتقان الاجتماعي في الجهة، ليُعلن يوم السبت الفارط عن ثاني اجتماع يُعقد خلال أسبوعين يجمع الرئيس بوزيرة البيئة ووزير الصناعة والطاقة، لمتابعة الوضع في قابس وتوجيه تعليمات بمعالجته بعد تشكيل لجنة مشتركة بين الوزارتين تتوجّه إلى معمل الحامض الفسفوري بالمجمع الكيميائي للإشراف على عملية الإصلاح.
كما تمّ التشديد على ضرورة وضع خطّة استراتيجيّة تضع حدًّا للكوارث البيئيّة، على أن تكون «مستوحاة من الخطّة التي أعدّها شباب قابس منذ أكثر من عقد من الزمن»، وفق بلاغ الرئاسة الذي تضمّن أيضًا تلويحًا بأنه لا تسامح مع من أخلّ بواجباته دون تحديد هوية المسؤولين أو الأطراف المقصودة بالمحاسبة. هذا بالإضافة إلى الإشارة إلى أنه لا تُقبل المزايدة أو التوظيف الداخلي أو الخارجي في ملف التلوث والاحتجاجات.
وهذه الجملة الواردة ببلاغ الرئاسة الصادر مساء السبت الفارط، حوّلت بشكل ما النقاش من جوهر الأزمة البيئية إلى هوية من يقف وراءها، خاصة من قبل أنصار الرئيس ومسانديه الذين بدأوا يروّجون لفكرة أن الاحتجاجات في قابس «مفتعلة» و»مدفوعة»، وليست ردّ فعل شعبي للاحتجاج ضد واقع الهشاشة الذي تعرفه الجهة.
خطاب أنصار السلطة، الذي يتكرّر مع كل أزمة أو احتقان اجتماعي، يسارع لتحويل وجهة النقاش من محاولة فهم الوضع الاجتماعي والصورة الكاملة إلى نقاش ثانوي يبحث عن الجهة المسؤولة أو المستفيدة من الاحتقان، وكأنّ كل الملفات يمكن إدارتها بالتشكيك والبحث عن مسؤولين يُلقى عليهم اللوم، سواء من المعارضة أو المنظمات أو حتى الإدارة والمسؤولين الحكوميين أنفسهم. وترويج خطاب المؤامرة الذي يثير ضوضاء وشوشرة في الفضاء العام تحول دون نقاش عقلاني يبحث عن خيارات ممكنة لمعالجة أزماتنا التي بات تواتر انفجارها يتسارع وتتقلّص الفجوة الزمنية بينها.
وهو ما يستوجب اليوم، قبل كل شيء، أن نعترف بأننا أمام أزمات اقتصادية واجتماعية لم تعد قابلة للتأجيل أو التجزئة، وأن نستوعب أن معالجتها من منطلق ردّ الفعل لم يعد كافيًا لاحتوائها، وأن النظر لكل أزمة اجتماعية أو اقتصادية على حدة وكأنها حدث عرضي أو مؤامرة يمكن لخطاب يحمل المسؤولية لهذا الطرف أو ذاك أن يُقلّص من رصيد الثقة في السلطة والدولة على حدّ سواء.
إن الخيار الأنسب اليوم هو التوجّه إلى التونسيين بخطاب صريح وشجاع يقرّ بالأوضاع المالية ويشرح محدودية قدرات الدولة على معالجة كل شيء وكأنها تمتلك عصًا سحرية، على أن يقترن كشف الوضع برسم خطة إصلاحات وتقديم مشروع وطني يُقدَّم للناس ليمنحهم الحلم والأمل بالأفضل، ويعدهم بأن مطالبهم ستتحقق.
ما يحتاجه التونسيون اليوم هو دولة تفعل لا تفسّر وتخطب. دولة تدرك قبل شعبها أن ما تواجهه من أزمات هو انعكاس مباشر لمحدودية مواردها وقدراتها، وأن تجاوز هذه العقبة يحتاج منها أن تبحث عن حلول حقيقية، وأن تبني علاقة جديدة مع المجتمع تقوم على الثقة والمساءلة.
أمّا غير ذلك، فإننا لن نحقّق سوى تأجيل الانفجار القادم