لماذا يوجد ناصريون خارج مصر ؟ ولا يوجد " بورقيبيون" خارج تونس ؟

أثبتت بعض الدراسات التاريخية قيام قدماء المصريين والإغريق

والرومان بكتابة السير الذاتية الغيرية القائمة على تمجيد " الرجل العظيم " أو " الزعيم المفترس " من كبار القادة السياسيين والعسكريين وفي الأكثر بعد وفاتهم مثل ما فعل محمد الصياح في كتاب لطفي الحجي " البورقيبية من الداخل" ٫ ولا نقصد من وراء هذه الورقة – ولا أعتقد الكاتب الصحفي قصد ذلك أيضا - إستدعاء التاريخ وتقلباته في تونس والوطن العربي والنبش في جراح الماضي المثخنة بالوجع إثارة أي نعرات سياسية لا نرى أي فائدة لها في مجتمع متشظي بطبيعته ، مشدود إلى كهوف التاريخ شدا لا فكاك منه بقدر ما تتوق إلى محاولة فهم ما جرى تجاوزا لأخطاءه و بناء المستقبل دون وجوب وحاجة لسردية سياسية واحدة من خلال قراءة سلسلة الكاتب الصحفي لطفي حجي " البورقيبية من الداخل " الصادرة مؤخرا في أربعة أجزاء

عن دار المتوسطيّة للنشر ، تناول في الجزء الأول “الأوّل بورقيبة والزعامة المفترسة،شهادة البورقيبي الأخير” ( رواية محمد الصيّاح)، والثاني " بورقيبة ومعارك عصره:النقابيون-الإسلاميون-عبدالناصر القذافي: شهادة الإبن البار” ( رواية محمد الصياح). أمّا الجزء الثالث فعنوانه،" بورقيبة والجهاد الأكبر ملحمة الاشتراكية الدستورية: شهادة الوزير الأعظم” ( رواية أحمد بن صالح)، ليكون عنوان رابع الأجزاء"بورقيبة والرئاسة مدى الحياة:شهادة بورقيبي ديمقراطي" (رواية أحمد المستيري) ، وقد حاول فيها الكاتب البحث في كيفية إدارة بورقيبة للشأن الداخلي التونسي وعلاقات تونس الخارجية تفاعلا مع محيطها العربي والإقليمي والدولي عبر مجهود جبار قام به الكاتب من خلال إجراءه حوارات مطولة مع ثلاث وزراء بورقيبة ٫ فجاءت الرباعية سيرة ذاتية غيرية غير مباشرة لعل من أبرزها رواية محمد الصياح الواردة بالجزء الثاني من الكتاب في 292 صفحة تحت عنوان فرعي " بورقيبة معارك عصره ٫ النقابيون -الإسلاميون-عبد الناصر-القذافي شهادة الابن البار محمد الصياح ) حاول فيها الجواب عن ثمانية أسئلة حول علاقة " البورقيبية " بجمال عبد الناصر طرحها عليه الكاتب بكل حنكة وذكاء ، فكانت رواية الإبن البار الوحيدة من بين الروايتين الأخرتين التي تناولت من أهم وأعقد معارك بورقيبة الداخلية في علاقة بالنقابيين والإسلاميين ٫ والخارجية في علاقة بجمال عبد الناصر ومعمر القذافي ، لذلك أفرد لها جزءين ، وقد بقيت رغم ذلك رواية محمد الصياح منقوصة في علاقة بورقيبة بالشيوعيين والقوميين داخليا وفي علاقة بورقيبة بفرنسا والجزائر وأمريكا خارجيا حتى وإن تم الإشارة عرضا إلى موقف الجزائر من اعلان الوحدة الليبية التونسية وقيام الجمهورية العربية الاسلامية سنة 1974 عبر تصريح هواري بومدين بأن الجيش الجزائري سيهاجم الأراضي التونسية فور غلق مكاتب الاقتراع على الاستفتاء لو تم " ( ص 241.) أو دور الجزائر في أحداث قفصة جانفي 1980( ص 246 و247 .)

لم يكتب لطفي حجي السيرة الذاتية لبورقيبة مباشرة كأول رئيس دولة تونس ما بعد الاستقلال بل كتبها على لسان غيره من الوزراء الثلاث في مئات من ساعات التسجيل والتمحيص والتدقيق أخذت من وقته أشهر عديدة مدعمة وموثقة بالمصادر العلمية والمراجع التاريخية وكانت غايته من وراء ذلك " تجاوز القراءة الأحادية النمطية الطاغية إلى قراءة أكثر إنفتاحا وتعددا وموضوعية" ( ص 11) حتى يستفيد منها جيل من الشباب عسى أن يجد في التاريخ السياسي لتونس ما يبنى عليه لمستقبل أفضل بما ينير درب السياسة العربية ( من عتبة إهداءه الكتاب لابنه ولجيله من الشباب) ( ص 14) .

ومن خلال موضوعية لطفي حجي بجعل متن كتابه الحوارات التي أجراها مع وزراء بورقيبة الثلاث بكل أمانة كما هي ،ومن يشكك في سرديتهم سيواجهه بالتسجيلات كاملة ، وكأنّه يخلي مسؤوليته الأخلاقية عن كل نقيصة أوثغرة قد تكون تسربت بين سطور كلمات المحاورين الذين تولوا " رسم سيرة بورقيبة كل حسب رؤيته الذاتية وكل حسب ما استقر من مواقفه ومشاعره تجاه بورقيبة بعد طول الزمن " ( ص 20) لتكون بذلك مواقفهم انطباعية وأحيانا انفعالية وكلما تقدمت الذاتية خطوة إلى الأمام تراجعت الموضوعية خطوتان إلى الوراء وهو ما يطرح بشدة إشكاليات الصدق والكذب ٫ الوضوح والغموض ٫ الخفي والظاهر في ظل التداخل العميق بين العناصر الذاتية والعناصر الموضوعية مما يؤدي حتما إلى السقوط في مطب تصفية الحسابات الشخصية والسياسية وتكون بذلك الرواية/ الشهادة مجرد تلبية رغبات ذاتية داخلية خاصة وأن أبطال متن الرواية وأولهم البطل الرئيسي الحبيب بورقيبة غير موجودين على قيد الحياة ولا يتمتعون بحق الرد ، وأن المحاور ليس في مجال التحقيق القضائي حتى يتمتع " بحق الكذب "وهو ليس بصدد كتابة سيرة ذاتية أدبية غيرية حتى يتحجج متمسكا بأن "أعذب الشعر أكذبه" بل هو ومن خلال ساعات الحوار الطويلة مع الكاتب بصدد كتابة سيرة ذاتية غيرية من نوع خاص تتعلق بالتاريخ السياسي لتونس في فترة ما بين سنتي 1956 و1987 من خلال تقلده العديدة من المناصب والمسؤوليات في الدولة مما يفتح الباب واسعا أمام المغالطات التاريخية والمكابرات السياسية ، والترقيع والتلميع ، والإبهار والإشهار وتضخيم المنجزات وأحيانا خلقها من الفراغ والوهم وتحقير الخصوم السياسيين والإفتراء عليهم بما ليس فيهم ، كل هذا على حساب الحقيقة التاريخية لا لشيء إلا لأنها رواية أحادية الجانب لا يتحمل فيها الحجّي أي مسؤولية أخلاقية أو قانونية .

في العتبات ، هل توجد " بورقيبية" ؟

ينطلق الكاتب من خلال عتبة عنوان كتابه " البورقيبية من الداخل " من مسلمة وجود " البورقيبية " وأنها أمر واقع من تحصيل الحاصل كالناصرية والماوية والديغولية مستعملا الظفرين عند ذكرهم بينما يحجبهما عند ذكر البورقيبية بل وقدم لها "محمد الصياح وإضافاته كمنظر أساسي لها وعقلها المفكر بما أضاف إليها من مضامين وشروح جديدة عبر كتبه العديدة التي أرخ فيها للبورقيبية ، " ( ص 23) ليصل إلى تعريفها بكونها مجموع السياسات والتوجهات العامة التي كانت تحكم رؤية بورقيبة سواء على مستوى الفكر السياسي أو التدبير السياسي العملي " *(ص 20).
بإستثناء كتاب " الفاعل والشاهد " الذي أصدره المولدي الأحمر سنة 2012 وهو خلاصة حوار صحفي مع رجل دولة بورقيبة الأول محمد الصياح تناول ما خفي من أسرار علاقته ببورقيبة وعائلته ، فإن بقية الكتب المنسوبة إلى الصياح ليست سوى تأريخ كرونولوجي للحركة الوطنية التونسية من وجهة نظر الطرف المنتصر في الصراع مع صالح بن يوسف على السلطة ضمن سلسلة تاريخ الحركة الوطنية التونسية التي أشرف عليها الصياح بتكليف من بورقيبة أو هي مجرد كتابة يوميات الحبيب بورقيبة الشخصية في إدارته لشأنه اليومي وعلاقته بعائلته ورجاله من ساعة قيامه من النوم إلى ساعة خلوده لفراشه مرورا بحصص سباحته في البحرأو تدبيره للشأن العام الداخلي والخارجي ، فكان بمثابة الكاتب الخاص ليوميات بورقيبة و" كبير مفسري " حكمه ولكل نظام حكم مفسرين ومبررين ٫ ولم ترتقي إلى مجال الكتابة في الفكر السياسي العلمي المرتكز على أسس علمية دقيقة تجمع بين الواقع والفكر في كل مجالات العلوم الفلسفية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية نظير ما قام به عصمت سيف الدولة ونديم البيطار وغيرهما من المفكرين الناصرين في إرساء الناصرية كمشروع فكري سياسي منفصل عن تجربة حكم جمال عبد الناصر ( 1952/1970 ) ولم تكن العملية سريعة و سهلة ، فقد أخذت من الوقت الكثير ومن الجهد العظيم مشوار لتأسيس المشروع الناصري بأرضيته الأيديولوجية العلمية الصلبة وأنساقه الفكرية بداية من مساهمات الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في مقاله بجريدة الأهرام في 14 جانفي 1972 وهو أول من أطلق مصطلح الناصرية ، في حين لم يظهر مصطلح " البورقيبية" في الساحة السياسية التونسية إلا بعد سنة 2011 بعد وفاة الحبيب بورقيبة بإحدى عشر سنة وبعد إزاحته من الحكم بثلاث وعشرين سنة وتكونت عدة أحزب وجمعيات أضافت " البورقيبية " لإسمها لا غاية لها من وراء ذلك سوى استمالة الناخبين وجلبهم لصناديق الإقتراع في المحطات الانتخابية بعد أن تخلى عنه جميع رجاله إثر وضعه بالإقامة الجبرية في المنستير وإكتفاء ابنه ومحمد الصياح بمراسلة بن علي قصد تحسين ظروف إقامته والبكاء عليه خلسة كبكاء الأطفال حين وفاته ( ص 23) وبقيت " البورقيبية " كأسلوب حكم أصاب في العديد من المجالات ( الدولة المدنية ، التعليم ، الصحة ، القطع مع الاسلام السياسي ، القضاء على العروشية والجهويات ...) وأخفق في البعض الأخر (تكريس دولة الحقوق والحريات وحقوق الانسان ، ، التركيز على " الأمة التونسية" كبديل عن الأمة العربية ، سياسة التعريب ، العلاقات الخارجية ...) إلا أنها بقيت محصورة في الحدود الاقليمية للدولة التونسية دون التميز والتفرد عن بقية المدارس السياسية الكبرى على غرار الناصرية التي تجاوزت تأثيراتها حدود الدولة المصرية والوطن العربي فأغلب الناصريين اليوم في تونس وفي الوطن العربي والمهجر مولودون بعد وفاة عبد الناصر بعضهم وصل للحكم في أقطارهم وبعضهم الآخر حمل السلاح وقاتل العدو الصهيوني في فلسطين ولبنان وكانت الناصرية نبراس كل الأحرار في العالم المعادين للصهيونية والإمبريالية والعنصرية ، وتم تبني الناصرية كمرجعية للعديد من الأحزاب السياسية والجمعيات وأنظمة حكم عربية وغير عربية ، ألم يفتخر الرئيس الفنزويلي الراحل يوغو شافيز بأنه ناصري ؟ ألم يكتب نلسون مانديلا :" كنت هناك فى طرف القارة أشب على أطراف أصابعى حتى ترانى ، عفواً لقد تأخر موعدي معكم 25 سنة كاملة ... كان عبد الناصر مصدر إلهام لنا، لأننا نعرف أنه قدم مساندة قوية، ، قدم دعماً لا يوصف بالكلمات، وإنّى سأكون مديناً له".

في المتن بعض ما يناقش .

لسنا هنا بصدد القيام بمقارنة / مفاضلة بين الناصرية و "البورقيبية" ولا دفاعا عن الناصرية من خلال قراءة كتاب لطفي حجي فلا المساحة ولا الزمان يسمحان بذلك بقدر الاقرار بتوفيق الكاتب في مراده من الكتاب الذي أثار العديد من التفاعلات والنقاشات داخل الساحة الفكرية والسياسية التونسية وداخل التيارات السياسية في تونس وبين مؤيدي بورقيبة إلى حد اعتباره ملاكا مقدسا ومعارضيه إلى حد اعتباره شيطانا مدنسا وقد نجح في ردم الهوة بينهما حتى وإن جاء في كلام محمد الصياح بعض المغالطات التاريخية المبنية على الدعاية الصهيوأمريكية كتكراره أسطوانة إلقاء الكيان الصهيوني في البحر " ...وبنفس الآليات يفسر هزيمة عبد الناصر المدوية سنة 1967 برمي إسرائيل في البحر وأقنع العرب أن ذلك ممكن في لمح البصر لكن حصل العكس جراء غياب التخطيط المحكم مقابل الاكتفاء بالشعارات والخطب " ( ص 27) والحال قد ثبت من كل المصادر التاريخية العلمية أن عبد الناصر لم يقل ذلك إطلاقا ، أو الإدعاء إنتماء بورقيبة للمدرسة الواقعية وعبد الناصر للمدرسة " الشعاراتية " والحال وأن عبد الناصر نفسه كان واقعيا عند ممارسته للحكم مطبقا المنهج التجريبي ، منهج التجربة والخطأ منطلقا من الواقع الموجود إلى تحقيق المنشود ، ألم يكن المنهج التجريبي منهجا سياسيا واقعيا ؟ دفعت عبد الناصر إلى القبول بمبادرة روجرز سنة 1969 وإلى تفكيره التخلي أواخر فترة حكمه عن رئاسة الدولة المصرية والتفرغ لبناء الحركة العربية الواحدة ، أو في الخلاف بين بورقيبة وعبد الناصر حول حل القضية الفلسطينية وأزمة خطاب بورقيبة في أريحا 1965 إذ لم يذكر محمد الصياح أي مصدر تاريخي موضوعي يثبت حقيقة إطلاع بورقيبة لعبد الناصر على محتوى الخطاب قبل إلقاءه ! والعهدة على من روى من أحداث تاريخ تونس الذي في ظاهره لا يزيد عن مجرد أخبار وفي باطنه تمحيص وتدقيق حتى يتم التخلص من كهوف التاريخ والإنطلاق نحو المستقبل وأن نفكر سياسيا بشكل جيد علينا أن نقرأ تاريخيا بشكل جيد .

بقلم: خالد الكريشي 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115