ففارقوا الحياة ! وكم هو مؤلم أن تكتسي أجنحة "الساف" الحُرّ بغيمة سوداء من الحزن، لم تألفها سماء الهوارية.
منذ أكثر من نصف قرن، وأجنحة "الساف" تحلّق في سماء الهوارية، شاهدة على حب سكان الجبل والبحر لهذا الطائر النبيل، وعلى تقاليد "البيزرة" التي توارثها الأبناء عن الآباء... إنّ مهرجان الساف الذي وُلد عام 1967 يتجاوز الطابع الاحتفالي ليكون موعدا سنويا مع الذاكرة والطبيعة والخصوصية الثقافية.
لكنّ الرياح في دورة هذا العام من مهرجان الساف بالهوارية هبّت بما لا تشتهي أجنحة الطير ولا قلوب البشر! لم يكن افتتاح الدورة 56 من مهرجان الساف بالهوارية - مساء الجمعة 27 جوان 2025 - موعدا احتفاليا اعتياديا بل كان مسرحا للموت وللدم . ففي لحظة كان يُفترض فيها أن تُبهر فنون "البيزرة" وتحتفي بالهوية الثقافية العريقة، انفجرت بندقية تقليدية كانت تُستخدم في عرض فلكلوري، فتحوّلت الفرحة إلى فاجعة.
هذه الحادثة الأليمة التي أودت بحياة امرأة وتسبّبت في بتر يد رجل جراء الانفجار الناجم عن الطلق الناري، ليست مجرّد خطأ عرضي، بل جرس إنذار صارخ من أجل مراجعة شروط السلامة في مثل هذه التظاهرات. إنّ توظيف الموروث الشعبي يجب أن يوازيه وعي بإجراءات التأمين حفاظا على الأرواح وصورة المهرجان.
مسؤولية من ؟
حين تتحوّل لحظة احتفالية إلى مأساة، لا تقع المسؤولية على كتف واحدة، ولا على جهة بعينها، بل تتوزع على أكثر من واجهة. إنّ الجهات المنظمة مطالَبة بوضع دليل دقيق للسلامة، لا يكتفي بالإجراءات الشكلية، بل يُشرف على فحص كل آلة وكل قطعة تُستخدم في العروض من البندقية إلى المسرح. وإنّ وزارة الشؤون الثقافية مدعوّة لوضع إطار مرجعي موحّد لجميع المهرجانات التراثية، يشترط توفر شروط السلامة كشرط للحصول على الدعم والترخيص. وإنّ البلدية والسلطات الأمنية تتحمّل جزءا من الرقابة الميدانية والمواكبة الفنية قبل وأثناء الفعاليات التي تستخدم وسائل أو آلات عرض تمثل خطرا ما.
يرجع تاريخ "مهرجان الساف" إلى سنة 1967 بالهوارية أو "اكيلاريا" كما سمّاها الرومانيون أي "مدينة الجوارح" التي يحتفي سكانها بطائر الساف إحياء لمخزون حضاري وثقافي توارثته الأجيال. وتراهن مدينة الهوارية على مهرجان الساف وهي التي اتخذت من هذا الطائر شعارا لها، لتعزيز مكانتها وعراقتها باعتبارها من أهم معابر الطيور المهاجرة في العالم ومن أكثر المدن المحافظة على الطيور وعلى البيئة.
ولئن كان من المحزن أن تُختتم سهرة احتفالية بصوت إسعاف لا تصفيق، وأن يُكتب على سجلّ هذه الدورة سطر من الدم بدل سطور الفخر، فإنّ هذه الفاجعة قد تكون خطوة باتجاه تصحيح المسار والاستمرار رغم الجراح.
اليوم من الضروري وضع شروط أمان تليق بهذا الفن النادر، فن "البيزرة"، ، من أجل بلوغ المساعي في تصنيفه ضمن لائحة التراث غير المادي لليونسكو.
فليكن ما حدث درسا من نار... لا خاتمة من رماد !