بصماتهن من صفحات الذاكرة، تأتي بثينة الغريبي بكتابها «كيف صارت صلوحة صليحة؟ سيرة بين ضفتين» لتعيد رسم ملامح الأيقونة التونسية صليحة، لا بوصفها الصوت الخالد، بل كامرأة استثنائية تناثرت فصول حياتها بين الحرمان والأضواء ، بين الدمعة والبهجة ، بين أن تكون امرأة... وفنانة. يتخذ هذا الكتاب الحائز على منحة دعم من مؤسسة المورد الثقافي والصادر مؤخرا عن دار أركاديا شكل مرافعة حقوقية ضد النسيان والتزييف، وشكل أغنية ترنمت بها صليحة في صمتها الطويل. إنها ليست فقط سيرة صليحة الفنانة الشهيرة، بل هي مسيرة صليحة الذاكرة التي حملت الريف في حنجرتها، والمعاناة في عزلتها، والوطن في نشيجها، والوجع في نحيب صوتها... ومن يقرأ "كيف صارت صلوحة صليحة؟" قد لا تفارق صليحة أبدا خياله ووجدانه... وربما تزوره في أحلامه !
"كيف صارت صلوحة صليحة؟" سؤال جوهري يحيل على الهوية ويحفز القارئ على الاكتشاف. جاء العنوان في صيغة سؤال يحمل دلالتين مزدوجتين: تحوّل الفتاة البسيطة (صلوحة) إلى أيقونة فنية تونسية (صليحة). أما العنوان الفرعي للعنوان الرئيسي (سيرة بين ضفتين) فيفتح بدوره باب التأويل المزدوج: بين الضفة الشخصية والضفة التاريخية، أو بين الحياة العادية وحياة الشهرة والأضواء.
كتابة تُشبه أغنيات صليحة
تعود بثينة الغريبي إلى الوراء، لتقترب ولتصادق ولتُنصت إلى "صلّوحة" الطفلة والجسد والأم والمطربة والإنسانة التي احترقت لتضئ ولم يُنصفها أحد. تسرد الكاتبة تفاصيل منسية من الهامش المُلقى على قارعة القسوة وداخل البيوت التي دخلتها صليحة كخادمة، والقصور التي خرجت منها بكدمات صامتة.
تغزل لغة الرواية ألفاظها وصورها بحس مرهف وبصدق كبير لتشبه أغنيات صليحة: مزيج من ألم وأمل، من كتمان وانفجار. تأتي الجمل قصيرة أحيانا، وكأنها شهقات وتنهدات تطلقها الفنانة في سرها عند نهاية كل أغنية. وأحيانا تطول وتتداعى كأنّها موال من الشجن والحنين. كتبت بثينة الغريبي مولودها الأدبي الأول "كيف صارت صلّوحة صليحة؟" وهي تنصت بكل جوارحها إلى صليحة تغنّي، فلم تكتب من وحي الخيال، بل من صوت سكنها حتى أصبحت صليحة تزورها في منامها، وأصبحت الكاتبة تحلم بملهمتها التي مشت على النغمات حتى لا تموت في جفون الصمت!
تتداخل الأصوات: صوت الراوية، صوت التاريخ، صوت الأغنية، صوت الأنثى، صوت الصمت… وكأنّ النص كله يتحوّل إلى مرآة مُشروخة تعكس وجوه صليحة الكثيرة، لا لتجمعها وإنما لتتركها كما هي على حقيقتها: متشظية، متعبة، واضحة، غامضة كشعور مبهم أمام أغان لصليحة تستدعي تدفق الشعور لا منطق التفسير!
"سيرة بين الضفتين": من الجرح إلى النص
لا يطمئن كتاب "كيف صارت صلوحة صليحة؟" إلى تصنيف واحد ولا يقبل إلا أن يتمرد خارج الصندوق تماما كصوت صليحة الحر والمنطلق والثائر. إنه ليس كتاب سيرة تقليدية، ولا دراسة أكاديمية جافة، ولا حتى بوحا ذاتيا بل هو كتابة جامعة تنهل من الذاتي والموضوعي، من الفني والتاريخي، من الذاكرة والوثيقة. برشاقة الطفلة صليحة صاحبة الظل الطويل التي كانت تعدو في أرياف "دشرة نبر" تلاحق الفراشات وسراب الغيمات، انتقلت الكاتبة ببراعة بين البحث العلمي والتحليل الأدبي والاستبطان الذاتي.
من الولادة إلى الرحيل، من المهد إلى اللحد، لا يروي الكتاب سيرة الفنانة صليحة بل يفكّك سردية التمثيل الرسمي لصوتها التي يعرفها عامة الناس. فإذا به يكشف كيف تحوّلت هذه المرأة القادمة من الهامش إلى أسطورة مغنّاة، ثم إلى اسم شهير على ألسنة من لم يعرفوا عذابها الحقيقي ومعاناتها في نحت ملحمة فنية اسمها: صليحة.
لا يسقط كتاب "كيف صارت صلوحة صليحة؟" في التوثيق الجاف والسرد الممل، بل يصوغ سيرة وجودية وفنية بلغة تفيض بالشاعرية والعقلانية، بالتشظي وبالثبات، بصرامة الوثيقة وحرية التعليق... ليجد القارئ نفسه في مواجه نص بوجهين: نصفه خيال موجوع وحبر جريح، ونصفه تأريخ مغاير لما سجلته الروايات الرسمية.
كاتبة لا تقف على الحياد!
هي "صليحة" الأيقونة الشعبية كما يعرفها الناس، أما صليحة الفنانة والإنسانة التي حدثت عنها بثينة الغريبي فهي امرأة أخرى، أو بالأحرى هي ذات المرأة التي نحتاج إلى إعادة رؤيتها من منظور انعكاس صورتها في كتاب "كيف صارت صلوحة صليحة؟" هي قصة امرأة تمزقت بين الأضواء والعتمة، بين الصعود الفني والانهيار الشخصي، بين التقدير العلني والاستنزاف الخفي. فكأننا بصاحبة الكتاب تقول إنّ صليحة دفعت ضريبة الشهرة والصوت الجميل حياتها... كل حياتها!
في كتابة على مقام الخيبة والانتصار لا تقف بثينة الغريبي على الحياد من بطلتها صليحة، ولا تتخذ مسافة من موضوعها، بل تتورّط وتسأل وتتوجّع وتشكّك وتدافع ... فإذا بها تقف إلى جانب صلوحة كصديقة، كمستمعة، لتقول: "لن أسمح أن تُهمشي مرتين، مرة في الحياة، ومرة في الذاكرة". ما يُحرّك كتاب "كيف صارت صلوحة صليحة؟" ليس فقط الانتصار إلى الفنانة صليحة، بل الرغبة في فكّ الحصار عن النساء اللواتي صنعن الفن التونسي والذاكرة الموسيقية فكنّ منارة أضاءت على حساب ظلمة الذات. إن بثينة الغريبي الصحفية والباحثة في علوم الإعلام والاتصال والمساهمة في الكتاب التوثيقي "مناضلات تونسيات" الصادر عن "الكريديف" لا تتخلى عن وهج الأسئلة وتوهج القضية في الدفاع عن الذاكرة النسائية المقصية والمنسية.
في نهاية الفصل الأخير من كتاب «كيف صارت صلوحة صليحة؟ سيرة بين ضفتين»، تتخيل الكاتبة بثينة الغريبي أنّ صليحة تعترف، فتقول: "أنا نافقت نفسي كثيرا .. كنت أشرب "البوخا" حتى أحيا و كانوا يلصقون بي التهم وما من أحد سأل عما بداخلي ... لم أكن أتلذذ شيئا ولكن مذاق البوخا يكسر روتيني معهم ... لم أذق شيئا منذ ولدت كان يجب أن أجد أي مذاق يشعرني بوهم الوجود ... وجدت البوخا وعثرت على الكذبة التي سأحيا بها"... وهكذا كانت حياة الفنانة صليحة كما روتها بثينة الغريبي بالتزام الوثيقة التاريخية وبتشويق قلم آسر وأسلوب جذاب، عبارة عن كذبة تتأرجح بين ضفتين !