نتلمس تأملًا شعريًا عميقًا في جدلية الزمن والمكان والعاطفة، حيث يشكّل أيلول هنا ليس فقط فصلًا مناخيًا بل زمنًا داخليًا للانكسار، التحول، والانبعاث. يبدأ النص بصورة مشهدية غائمة، حيث السحب السوداء لا تنذر فقط بمطرٍ طبيعي، بل تنبئ بعاصفة داخلية، تحمل في طياتها آلامًا ومخاوف ومصيرًا غير معلوم.
تتسرب الرمزية من كل سطر، فـ"بقايا أنين لناي حزين" تفتح أمامنا بوابة موسيقية حزينة تُفضي إلى ذاكرة مثقلة بالألم، أما "الجنون في آخر النفق"، فيوحِي بتيهٍ نفسيّ، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والخيال، بين الحب والعبث.
ولادة الطقس الحميمي في المقطع الذي يتحدث فيه عن فنجان القهوة ولونه كلون التوت، تعبّر عن لحظة استراحة وسط العاصفة، لحظة تأمل شاعرية في روتين يومي يضج بالرمز والدفء. لكنّ الراحة مؤقتة، إذ يعيدنا الزمن إلى ثقله، و"خطواته المثقلة بزخم الحكايات المؤلمة" تعكس تراكم الخسارات والذكريات الموجعة.
شاي الزنجبيل والإكليل يتداخلان مع "صهيل الحرف" في حدائق الكلام، وهنا تنفتح القصيدة على بُعد صوفي شعري؛ اللغة تصبح مخلصًا وملاذًا، والحرف يصبح كائنًا حيًا ينتشي، يحتفل، يواسي، ويمنح الكاتب خلاصًا مؤقتًا من "عتمة الخوف الممزوج بالأمل".
في هذا المشهد المعتم، تضيء "شموع الهوى" وتبكي الليالي، ثم ترتكن "أوراق الزيتون" ـ رمز السلام ـ على جدار البؤس، وهي صورة تجمع بين القوة والهشاشة، بين الرجاء والحصار، وفيها تتجسد معاناة الوطن والإنسان معًا.
ثم يأتي التحذير: "انتظري العاصفة"، وهو صوت نبوئي يشير إلى ما هو قادم: معركة الحب، أو ربما الحرب الداخلية التي تأخذ طابعًا أسطوريًا، إذ يستحضر الشاعر معابد، وأساطيل، وجواسيس، ومحرابًا يتحول فيه العشق إلى ملحمة، والحب إلى ساحة صراع.
وليد عبد الحميد العياري في هذه القصيدة يرسم عالمًا متشابكًا، يُؤنسنه الزمن، ويُقدّس الطقس، ويحوّل الحب إلى طقسٍ شعائري يُمارس في معبدٍ يمزج بين الحنين، والألم، والأمل. إنها كتابة تجمع بين الإحساس المرهف والرؤية الفلسفية، متكئة على صور حسية قوية وتراكيب لغوية مشبعة بالشجن والرمز.
يقول وليد عبد الحميد في مقطع من "طقوس أيلول":
وأشتهي لثم فنجاني.
ورحيق قهوتي كلون التوت
تزينه حمرة الغسق. .
ساعات زمني. ..خطواتها مثقلة بزخم الحكايات المؤلمة.
وضجيج قوافل الرحيل. .
يسكب في أقداح نشوتي
شاي بإكليل وزنجبيل. .
ينتشي عقلي بصهيل الحرف في حدائق الكلام.
بقلم : محمد الورداني