طيف قصيدة وخيال شاعر ولو على سبيل الاستحضار والمجاز. لم يكن الجمهور ينتظر شاعرا يعتلي المنصّة، بل كان ينتظر دخول محمد الصغير أولاد أحمد على أكتاف المجد من باب الغياب !
لم يكن تكريما معتادا أو عاديا، بل كان وفاء على هيئة جائزة تحمل اسم "جائزة محمود درويش"في دورتها الأولى. وتُمنح إلى شاعر تقاطعت قصائده مع مسارات الكرامة ودروب المقاومة.
أولاد أحمد على منصة التتويج ... حضور بالغياب
كانت أرملته زهور أولاد أحمد جالسة هناك، وشاهدة على تتويجه في مكتبة الكتاب. كانت تحمل الوصية وترعى " كلمات"، الابنة التي منحها الأب الراحل اسم الكلمات وظلالها واتساعها في امتداد ما بين الكاف والتاء المفتوحة.
في لحظة شعرية استثنائية، استعاد اسم محمد الصغير أولاد أحمد، الذي أحبّ "البلاد كما لم يحبها أحد" الأضواء والأمكنة والأزمنة وهو يُكرَّم بجائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون، في دورتها الأولى.
كانت هذه الجائزة أكثر من درع وأكبر من ووسام. بل كانت جسرا جديدا يربط بين درويش وأولاد أحمد، بين شاعر فلسطين وشاعر تونس، بين الحلم المقاوم والقصيدة الحرة.
"الصغير… لم يكن شاعرا فقط، بل كان وطنا يمشي على قدميه"، قال عبد الحميد الأرقش، رئيس لجنة تحكيم "جائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون"، وهو يعلن فوز أولاد أحمد في دورتها الأولى بعد رحيل الشاعر وبقاء القصيدة حية ومتوهجة.
وقد أدار حفل التكريم الباحث والكاتب محمد المي الذي قال بصوت الوفاء والتأثر: "لقد كتب الصغير شعرا بدمه وعرقه... كان يكتب كما يعيش، ويعيش كما يحلم... تماما كما درويش".
من سيدي بوسعيد إلى رام الله... الشعر سفر
في الصفوف الأولى، جلس مثقفون تونسيون وفلسطينيون، بينهم الشاعران منصف المزغني وطلال حماد، يتذكرون صديقهم بصوته الجهوري، وابتسامته الساخرة، ومواقفه التي لم تُهادن يوما.
استعاد الحاضرون العلاقة العميقة التي ربطت بين أولاد أحمد ودرويش، صداقة لم تجمعها الجغرافيا بقدر ما جمعها اللغة والقضية.كان درويش يعتبر تونس ملهمته، وقد أقام بها في زمن المنفى بين 1982 و1993، وقال ذات قصيدة: "كيف نُشفى من حب تونس؟ وكان أولاد أحمد بدوره يرى في فلسطين مرآة أخرى للكرامة، للحق، للقضية العادلة.
"عندما كان يدير بيت الشعر في تونس عام 1995، قال لي: أنا تلميذ لمحمود درويش"، هكذا روي عبد الحميد الأرقش. كانت صداقة الشاعرين أكبر من التوصيف، ولم تكن فقط بين شخصين، بل بين قصيدتين، بين حلمين، بين وطنين جريحين يبحثان عن معنى للكرامة.
محمد الصغير أولاد أحمد ، كما وصفه الأرقش، لم يكن نجما في صالونات النخبة ، بل شاعر الشارع، شاعر الحرية، شاعر من حمل وجع سيدي بوزيد قبل أن تتفجر منها شرارة الثورة. "لم ينخرط شعريا في السياسة" كما تقول مقدمة أحد دواوينه، "بل انخرط في الشعر سياسيا"، وهذا ما جعل صوته مختلفا، متمردا عصيا على الترويض.
بين درويش وأولاد أحمد : صداقة وقصائد كبرياء
في حفل إسناد محمود درويش إلى محمد الصغير أولاد أحمد غنّت الفنانة عايدة نياطي أغنيات من كلمات أولاد أحمد أو تشبه وقع خطى في شوارع العاصمة التي أحبها وتغزّل بها وعاتبها وكتب لها. كما قدّمت أغان من التراث الفلسطيني، وكأنها تربط خيط القصيدة بين تونس وفلسطين، بين درويش وأولاد أحمد، بين "سيدي بوسعيد" و"رام الله"، بين جرحين يتشابهان في الكبرياء.
في حفل تتويج محمد الصغير أولاد أحمد بجائزة محمود درويش، كان المعرض الوثائقي "خرائط تاريخية لفلسطين"، وكأنه تذكير ويقين بفلسطين التاريخ والجغرافيا والقصيدة التي تتحول إلى خريطة مقاومة وإلى وثيقة وجدان.
في انتظار المزيد من الأسماء بجائزة محمود درويش لم تنته الحكاية لأنّ الشعراء لا يموتون، ولأن قصائدهم تصبح وطنا لنا، ونورا حين تشتد العتمة، وسلاما نرتب بها فوضى أرواحنا حين تتعب. وقد كتب محمود درويش "نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا" !
مؤطر:
ما هي "جائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون"؟
يشرف على تنظيم وإسناد "جائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون" مركز الفنون والثقافة والآداب بقصر السعيد وكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة وكرسي الإيسيسكو "ابن خلدون للثقافة والتراث" وهو من ضمن شبكة الكراسي الدولية للفكر والآداب والفنون التابعة لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، التي تضم جامعات ومعاهد بحثية مرموقة.
ويرأس اللجنة العلمية لجائزة محمود درويش للشعر والأدب والفنون المؤرخ الجامعي عبد الحميد لرقش وعضوية كل من لطيفة لخضر، مؤرخة ووزيرة ثقافة سابقة، وفوزي محفوظ، مؤرخ ورئيس كرسي ابن خلدون.