من بين هؤلاء، يبرز اسم جابر المحجوب، الفنان الذي لم يكن مجرد مبدع للأشكال، بل حفّارا في طبقات الذاكرة الجماعية، وصانعا لمجازات بصرية تنبض بالتاريخ والرمز والهوية.
وفي سياق تكريمه، نظمت دار الفنون ، مؤخرا ، لقاء ثقافيا بعنوان "الظاهرة ومعانيها"، احتفاء بمسيرته الفنية المتفردة. هذا اللقاء كان مناسبة لإعادة قراءة منجز الفنان التشكيلي التونسي جابر المحجوب (1938 – 2021)، من خلال تقديم كاتالوغ خاص يستعرض أبرز محطات تجربته التشكيلية، ويضمّ تحليلات نقدية تسلّط الضوء على عمق رؤاه الجمالية والفكرية.
بين التراث والتجريب: هوية بصرية متفرّدة
تميّزت أعمال جابر المحجوب بقدرتها على الجمع بين التجريب المعاصر والانغماس في التراث الثقافي التونسي والعربي. لم يكن فنه تكرارا لمقولات سابقة، بل سعى إلى تفكيك الرموز وإعادة تركيبها ضمن مقاربات جمالية مفتوحة على التأويل. من خلال توظيفه للون والخط والفراغ، نجح في بناء عالم بصري خاص، حيث تتلاقى الحكاية الشعبية مع الأسطورة، ويصبح الجسد رمزاً لحالة وجودية أو ميتافيزيقية.
رغم أن جابر المحجوب استلهم كثيرا من البيئة التونسية، إلا أن أعماله حملت في طياتها رؤية كونية، تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية. لقد كان فنانا مهووسا بالبحث، لا يرضى بالثابت، ولا يخشى المغامرة، وهو ما جعل تجربته تتطوّر باستمرار، دون أن تفقد خصوصيتها أو روحها.وقد عُرضت أعماله في كبرى القاعات والمهرجانات الفنية داخل تونس وخارجها، وحظيت بتقدير واسع من النقاد والجمهور، لما تحمله من صدق تعبيري وتماسك بصري، وما تطرحه من أسئلة كبرى حول الإنسان، والهوية، والزمن.
رحل جابر المحجوب، لكن فنه لا يزال حيا، نابضا، يتحدى النسيان. لوحاته، برسائلها الصامتة والمكثفة، تواصل مخاطبة الأجيال، وتثير في كل مرة أسئلة جديدة حول جدوى الفن ومعناه. إنه أحد أولئك القلائل الذين استطاعوا أن يجعلوا من اللوحة مرآة للروح، وحوارا مع الزمن، وفضاء للتأمل.
تحدث عن جابر المحجوب كثيرون منهم الفنان التشكيلي والناقد الفني عمر الغدامسي والدكتور سامي بن عامر والفنان بشير قرشان والدكتور الحبيب بيدة في مشاركة خاصة من صديق جابر المحجوب، الكاتب الفرنسي ميشال راي.
إنّ لقاء "الظاهرة ومعانيها" لم يكن مجرّد تكريم، بل هو محاولة للإنصات مجددا لصوت فني مغاير، وللوقوف على تجربة شكّلت إضافة نوعية للمشهد التشكيلي التونسي والعربي. هو دعوة للغوص في موروث فني فريد، يشهد على قدرة الفن على تجاوز الفناء، والتحوّل إلى أثر خالد.