الديون العالمية تحطم رقماً قياسياً جديداً حين يُصبح الدين سلاحا وتمارس لعبة الكبار على رقعة الدول الناشئة..

كشف معهد التمويل الدولي (IIF) في تقريره الصادر بتاريخ 7 ماي 2025،

عن تجاوز الديون العالمية حاجز 324 تريليون دولار خلال الربع الأول من السنة الجارية، مسجّلة بذلك زيادة قدرها 7.5 تريليون دولار مقارنة بالربع السابق، لتحطم رقماً قياسياً جديداً.

هذا الرقم غير المسبوق يعيد إلى الواجهة الحديث حول استدامة السياسات المالية في العالم ، ويثير جدلا واسعا حول قدرة الدول، خاصة النامية منها، على مجابهة المستقبل المالي القريب دون انهيارات محتملة.

الارتفاع المتسارع

ترتبط موجة الارتفاع المتسارع للديون بعدة عوامل متشابكة لعل ابرزها والتي تشترك فيها اغلب الدول التي تعاني من نسبة دين مرتفع النفقات العمومية المتزايدة دون ترشيد اللجوء إلى توسيع نفقاتها لمجابهة آثار جائحة كوفيد-19، ثم لتخفيف انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية، والآن لمواجهة آثار تغير المناخ وتكلفة التحول الطاقي، وكذلك ارتفاع أسعار الفائدة التي ارتفعت وتيرتها خلال السنوات الاخيرة .
يبدو ان اغلب الدول النامية سلكت مسار التوسّع في النفقات العمومية ، مدفوعة بحاجتها لمعالجة اختلالات اجتماعية واقتصادية عميقة، فالهند على سبيل المثال، رفّعت من ميزانية البنية التحتية والتعليم بشكل ملحوظ في إطار رؤية "الهند الجديدة"، رغم العجز المزمن في ماليتها. أما البرازيل، فاستثمرت بشكل واسع في برامج الدعم الاجتماعي لتقليص الفقر وتحفيز الاستهلاك الداخلي، وهو ما ساهم في تحسين المؤشرات الاجتماعية، لكن بثمن مديونية متصاعدة.
من جهتها، لجأت جنوب إفريقيا إلى ضخّ نفقات ضخمة في قطاع الطاقة والنقل لمحاربة التفاوتات الجهوية، ما وضع ميزانيتها تحت ضغط كبير، خاصة في ظل ضعف نسب النمو. هذه التجارب تُظهر أن التوسّع في النفقات قد يوفّر حلولاً آنية ويدفع بعجلة التنمية، لكنه يصبح عبئاً هيكلياً إذا لم يُقترن بإصلاحات اقتصادية عميقة واستراتيجية واضحة لضمان الاستدامة المالية.

بين التصعيد والانضباط

أشار التقرير إلى أن الصين و فرنسا، وألمانيا كانت من بين أكبر المساهمين في الارتفاع القياسي للدين العالمي، في حين سجلت كندا وتركيا انخفاضًا في مستويات الدين، حيث استحوذت الصين وحدها على أكثر من تريليوني دولار من هذا الارتفاع، ليبلغ 93%، من الناتج المحلي الإجمالي ومن المتوقع أن تبلغ 100% قبل نهاية العام.
يرجع هذا التباين إلى اختلاف السياسات الاقتصادية وظروف السوق الداخلية في كل دولة، فالصين مثلا سلكت نحو زيادة الاقتراض لتمويل خطط التحفيز الاقتصادي عقب تباطؤ النمو وأزمة قطاع العقارات، إضافة إلى استمرار الاستثمار في مشاريع استراتيجية كبرى، وهو ما ساهم في تضخم الدين العمومي لديها .
أما فرنسا وألمانيا، فقد واجهتا ضغوطًا مالية متزايدة جراء التزامات اجتماعية ضخمة، ودعم الطاقة بعد أزمة أوكرانيا، إضافة إلى النفقات الضخمة والمتزايدة على التحولات البيئية والرقمية الذي تفرضه الأجندة الأوروبية، ورغم أن هذه الاستثمارات تعتبر ضرورية على المدى البعيد، إلا أنها ساهمت في توسيع فجوة المديونية في المدى القريب.
في المقابل، اعتمدت كندا سياسة مالية أكثر تحفظًا، مستفيدة من تحسّن مداخيلها الضريبية نتيجة لانتعاش أسواق العمل والطاقة، ما سمح لها بالتخفيض من نسبة الدين .
أما تركيا، فقد لجأت إلى تقليص الاقتراض الخارجي نتيجة الضغوط على الليرة التركية، معوّلة على دعم مالي من شركاء إقليميين، خاصة من الخليج، في حين اتخذت إجراءات صارمة للحد من العجز المالي، رغم ما يرافق ذلك من تحديات اجتماعية.
كل هذه الظروف هيات مناخا هشا ساعد في تعميق المديونية التي قد تؤدى الى تداعيات مزدوجة تتسبب لدى اغلب الدول في مواجهة ضغوطًا في تمويل الميزانية وارتفاعًا في خدمة الدين، مما قد يدفعها إلى فرض ضرائب إضافية أو تقليص الدعم الاجتماعي. في المقابل، فإن الدول التي خفّضت من مستويات ديونها ستتمتع بهامش أوسع للمناورة في السياسات الاقتصادية، وقد تتحسن تصنيفاتها الائتمانية، لكنها تظل معرضة لمخاطر النمو البطيء أو التوترات السياسية الداخلية.

استحقاقات ضخمة في الأفق

اورد معهد التمويل الدولي في تقريره ، تنبيها إلى أن الأسواق الناشئة تواجه استحقاقات ديون تصل إلى 7 تريليونات دولار خلال ما تبقى من عام 2025. هذه الأرقام تنذر بتحديات كبرى تتعلق بالسيولة والوفاء بالتزامات السداد، خاصة في ظل تقلبات السوق وارتفاع أسعار الفائدة العالمية اذ،ستواجه هذه الدول خاصة تجاه الأسواق العالمية التي يهيمن عليها الدولار الأمريكي، جملة من التحديات المعقّدة تتجاوز البعد المالي إلى أبعاد سيادية وجيوسياسية.
في ظل ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، تصبح خدمة الدين الخارجي أكثر كلفة، ما يؤدي إلى استنزاف احتياطي العملة الصعبة وتدهور قيمة العملة المحلية، الأمر الذي ينعكس مباشرة على الأسعار والمعيشة. كما تدفع هذه الظروف رؤوس الأموال الأجنبية إلى الهروب نحو الأسواق الأكثر استقراراً، مما يضعف الاستثمارات ويعمّق أزمة السيولة.

تشديد السياسات النقدية

لقد أدى تشديد السياسات النقدية في الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا إلى زيادة تكلفة خدمة الدين، مما ساهم في تفاقم العبء.
ثم التضخم وبالتالي تراجع النمو الذي ادى مباشرة الى ارتفاع أسعار المواد الأساسية واضطراب سلاسل التوريد واللذان أديا بدورهما إلى تباطؤ اقتصادي حاد، أجبر الحكومات على الاستدانة للمحفاظة على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، دون اعتبار طبعا تقلبات التمويل الخارجي اذ تواجه الأسواق الناشئة ضغوطاً إضافية بسبب تقلبات العملات ونقص احتياطي النقد الأجنبي، مما يزيد من هشاشة الوضع المالي ويجعلها أكثر عرضة لخطر التخلف عن السداد.

والأخطر أن هذه الدول تجد نفسها خاضعة لشروط قاسية تفرضها مؤسسات مالية دولية تسيطر عليها خطط الاصلاحات الصارمة والمسارات المعقدة ، مثل صندوق النقد الدولي، والذي بلغ إجمالي الديون العالمية المستحقة لديه نحو 145 مليار دولار في نهاية شهر فيفري 2025.
هذا الضغط من شأنه أن يقيّد حرية الدول التي تعاني من مديونية مرتفعة ويدفعها إلى اعادة رسم سياساتها الاقتصادية
في هذا السياق، قد يتحوّل الدين إلى أداة ضغط سياسي، تُجبر من خلالها بعض الحكومات على التموضع ضمن محاور دولية معينة، يجعل من مسألة المديونية تحدياً استراتيجياً يتجاوز الأرقام ليبلغ صميم القرار الوطني وبالتالي تمارس باستحقاق لعبة الكبار على رقعة الدول الناشئة.

لم تعد أزمة الديون مسألة تهم فقط الدول الهشة، بل أصبحت واقعًا عالميًا يهدد الاستقرار الاقتصادي في العالم بأسره حيث إن الإفراط في الاعتماد على التمويل بالدين خاصة لسداد النفقات ودفع الاجور وسداد ديون متخلدة حل اجلها وارتفعت خدماتها دون إصلاحات هيكلية حقيقية تنبني على تنويع الانتاج وتحريك عجلة النمو يُعد مقامرة بالمستقبل المالي للأجيال القادمة. وعليه فالعالم اليوم بحاجة ملحة إلى مقاربة جريئة وشاملة، تخلق نظاما اقتصاديا جديدا يفرض التوازن بين الحوكمة الرشيدة والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن المسكنات الوقتية

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115