اجتمعوا في مجازات الكلمات وصنعوا لانفسهم مسارات الاختلاف فكتبوا الشعر والنثر وحاولوا استنطاق المكان والحكايات لتكون قصائد شعرية تشبه انتمائهم لعالم اللغة ومجازاتها،
في النفضية تلك المدينة الصغيرة الرابضة بين سوسة والقيروان كان لقاء الشعراء في دار الثقافة بالمكان في خامس زيارات بيت الشعر التونسي لاهله من رواد الكلمة والشعر بعد زيارات البيت للقيروان ورفراف وزغوان وقليبية.
سمير تهميش يكرّم في مدينته
شاعر وصل الى ارقى درجات الانسانية، احب الكلمة وعوالمها المغرية، كتب الكثير من النصوص ورحل بقصائده ليخاطب انسانية الانسان هو ابن النفيضة وحارسها الشعري ومعلم ابنائها ابجديات اللغة العربية، الشاعر سمير تهيمش جزء من ذاكرة المكان وقصائده روح للزمن وانفعالات ابداعية يتفنن في صياغتها، كان المكرّم في دار الثقافة النفيضة.
تهيمش الشاعر العاشق للكلمة والمدافع عنها بالدموع والدم، بسيط وهادئ اما قصائده فبركان من الغضب والحب في الكثير من الاحيان، احب العربية وكتب بها اجمل النصوص، تهيمش الشاعر الانسان حين يقرئ يرحل بعيدا الى عوالم تشبه كلماته النقية وصوره الشعرية الصادقة، شاعر نحت مساره الابداعي بالكثير من الجدية، تعرض للاقصاء كثيرا ولكنه دائما يعود من خيباته منتصرا حالما سلاحه الصدق والكلمة.
شاعر ينصت لإنسانيته ويحولها الى قصائد شعرية، كتب للحب والحرية والوطن والانسان ويدافع عن المحبة بكل تجلياتها فيقول:
الأرض ليس ضيقة
لو كانت قلوبنا
أوسع قليلا
امام مريدي الشعر واهل بيت الشعر قرأ سمير تهيمش بعض قصائده فتفتّحت ابواب الذاكرة وانسابت الكلمات قرأ لغزة ولابنائها الصامدين، باح بوجعه تجاه ما يعانيه الانسان من ظلم الحرب وجبروت آلات الموت والخوف، قرأ بحبّ لجمهور يعرف حساسية تهيمش تجاه القصيدة والكلمة فكان التكريم بطعم التين والحب، تكريم اعترف عبره بيت الشعر التونسي بجمالية ما يكتب تهيمش واختلافه تجاه نصه، تهيمش الشاعر الواثق من قوة الكلمة وقدرتها على زعزعة اكثر الانظمة صمّا يقول في احدى قصائده:
صفقوا طويلا
كما أنتم دائما لشعر البيانات
لأنّكم لا تسمعون أبدا همس العبقرية
أمة صماء تلك التي لا تسمع إلاّ الصخب
لأنّها لم تعلّم أبجديّة القلوب
بين جمالية الكلمة ومتعة اللغة كان اللقاء
بين الشعر والجنون خيط فاصل رقيق ودقيق، وحدهم الشعراء يدخلون مدارات الجنون ويعودون منها سالمين بكمال مداركهم العقلية، الشعراء اصدقاء الوهم واصحاب نبوءّة متواصلة، في دار الثقافة النفيضة وفي حماية بيتهم اجتمعوا وقرأوا من نصوصهم، وحيهم المختلف كان مادة لسهرة رمضانية راوحوا فيها بين الشعر العمودي والنثري، جرّبوا وجددوا وامتعوا الحضور باجمل الكلمات وصنعوا من اللغة سفينة للرحلة الى عوالم البرزخ، في رحاب الشعر اجتمع كل من سفيان رجب واشرف القرقني و جهاد جلال وايوب السعيدي وصابر العبسي وقرا احمد شاكر بن ضية واديم عبيدلي ومحمد فاروق، لكل منهم اسلوبه في استنطاق اللغة.
تورط في اللغة كتابة وترجمة، احب العربية فكتب بها شعرا ونثرا وقصة قصيرة وترجم اعمال عالمية الى لغته، الشاعر والمترجم اشرف القرقني قرأ لجمهور الشعر في النفيضة، له فلسفته الخاصة في التعامل مع النص المكتوب والصور الشعرية، يهيم بجماليات الكلمة ثم يبدع في ترصيفها لتكون نصوصه كحبات اللؤلؤ المنضود:
مُقَيَّدًا إِلَى الشَّجَرَةِ، لم أَذهبْ أبعدَ مِنْ سِياجِ الحقْلِ. لم أصلْ بعدُ إلى حَتفِي. لكنّ الوقتَ المُتكدِّسَ خلفَ البابِ يَعِدُني بِسِرٍّ أخض
كنتُ كلَّ صباحٍ أُلقي نظراتٍ زرقاء خلفَ التّلّةِ. وعَبَثًا أنتظرُها في المساءِ. من فرطِ الانتظارِ صارتْ يدايَ يابسةً، وعينَاي بحرًا، تزحَمُ فيه المراكبُ أشرعةَ الهواء. ورغمَ ذلك، ما زلتُ الأرملةَ التي تُنفقُ آخرَ دِرهمٍ، من أجلِ دمعةٍ أخرى على خدِّ المسيح
في النّهاية، الحجرُ الوحيدُ الذي صدَّقتُ صمتَهُ، كان إسخَرْيُوطِيًّا آخر قد هرَّبَ أحلامي إلى ليلِ آلهةِ الشِّرٍّير، حيثُ العويلُ والقَصَبُ المجروح. ها هو يقرأُ قَطيعًا من نظراتٍ سائبةٍ. تُسابِقُ بابًا مخلوعًا في الرّيح. ويُلقي حكاياتِهِ عن البَدْءِ والخَرابِ العظيمِ في خواءِ نهاراتِكُم.
هو اصغر الشعراء عمرا وتجربة لكنه متمكن جدا من اللغة والياته يتفنن في التوصيف والتلاعب بمشاعر المنصتين لشعره، ايوب السعيدي الشاعر الشاب امتع الجمهور بقصائد مجنونة تشبه عشقه لجنون الشعر فقرأ:
تفسّخ الجسد
داخل صَدرِي توجد "كنَبة" عليها بُقعَة حمراء.
كلّما اختلط الهواءُ في الخَارجِ. برائحةِ غيابكِ الّتي تُسَمِّمُ عُشبةَ وجودي، وبغازاتِ الأعمالِ اليوميّة السَّامِةِ الّتي تَزِيدُ من اتّساعِ ثقبِ الأوزون في سماءِ جسدي، حتّى أكادُ أتفسّخُ. أَضِفْ إليها أخبارَ العالم التّافهةِ الّتي لا فائدةَ منها غير إنقاص هرمونِ "الدّوبامين" في الدمِ.
كلّما تهاطلت دموعُ الوحدةِ والخوفِ من هذا العبثِ الوجوديّ، تَنمو حولي أعشابُ العزلةِ الطّفيليّة غير الضّارّة ببيئة الجسدِ
فأستلقِي على "الكنَبة" كرجلِ أعمالٍ للمجازِ، محلّقا بعيداً في أكوانٍ معلّقة أعلى خيالي.
كلّ مجرّة أذهب إليها. أرى فيها نيزكا يشبه إصبعكِ، فتكبرُ البقعةُ الحَمراءُ قليلاً. أرى شمساً تشبهُ ضحكتكِ، تكبرُ البقعةُ أكثر، قمرا يُشْبِهُ صَمتكِ، تَزدادُ البقعةُ كِبَرًا، أرى ثقباً أسودَ يشبهُ طيفكِ ويبتلعني.
ألتفتُ حولي فأرى طيفكِ هذا يحرثُ أعشابَ العزلةِ،
أراقبهُ في صمت، تزداد البقعةُ الحمراءُ كِبَرًا،
ها هو ثُقْبُ الأوزون يتّسعُ، والدّمُ يَفقدُ كُلَّ هرموناتهِ.
مع آخرِ عُشبةٍ تُقْتَلَعُ حولي، أتفسّخُ تاركاً خلفي خيطاً أَحمرَ يركضُ في شوارع هذا العالم بحثاً عنكِ.
يرحل الشعراء بعيدا الى عوالم اللازمان، يصنعون عالم مجنونا يشبههم، في النفيضة التقى محبي الكلمة وحجّ ابناء اللغة الى مداراتهم الخاصة، نجح بيت الشعر في تجميع اصحاب المكان ليقرأوا ويقدموا لجمهوره اجمل الكلمات في مسامرة رمضانية شعرية.