عرض "جرانتي العزيزة" لفاضل الجزيري : حكاية تونس كما روتها الكمنجة !

يحدث أن ندخل العرض الفني ثم لا نخرج منه كما دخلنا أبدا،

بل نعود منتشين إحساسا وحواسا أو مثقلين بحمول أو بهموم... وذلك قد يعني أنّ سهم الإبداع لم يخطئ الهدف. فكيف يكون الوصف حين يأتي الكلام على لسان الموسيقى التي تُحيي النفوس وتُوقظ الأحلام وتُفجّر الذكريات؟ هل يعلو صوت على صوت الكمنجة في حوارها مع أخواتها وجاراتها حين تضحك أو تبكي؟ في عرض "جرانتي العزيزة" لفاضل الجزيري كانت الكمنجة هي صوت الحنين ، صوت الحرير، صوت البدايات والنهايات في توثيق صفحات من تاريخ تونس السياسي والاجتماعي والثقافي عبر طرح ثلاثي الأبعاد: درامي وغنائي وشاعري.

"جرانتي العزيزة"، هو عنوان طريف اختاره المخرج فاضل الجزيري ليسمي عرضه الجديد. من إنتاج المسرح الوطني التونسي و"مركز الفنون جربة" بالتعاون مع مسرح الأوبرا. ويأتي هذا العمل المسرحي الموسيقي بتوقيع مساعدة المخرج سامية بن عبد الله وأداء كل من إشراق مطر وسليم الذيب وإلياس بلاقي ومهدي ذاكر ولطفي الصافي.

مسرح وموسيقى... وخرافة شاعرية

هي حكاية تشبه حكايات "ألف ليلة وليلة" أو هي حكاية لم تروها شهرزاد لشهريار... بل هي حكاية رواها فاضل الجزيري بأسلوب الحكواتي وبعين المسرحي وبأذن الموسيقي، فكان اسمها "جرانتي العزيزة".
عندما يمرر العازف القوس على أوتار الكمنجة، فإنه يفتح نوافذ على اللاّمكان واللاّزمان في سفر "يشد البحر للبر الشريد". ولئن كانت الكمنجة آلة طرب ذات أربعة أوتار وقوس، فإنّ عرض "جرانتي العزيزة" فتح أقواسا بين الواقع والخيال وعزف على أربعة أوتار سيمفونيات الشرق والغرب وحكاية وطن وسيرة فنان...
قد يبدو العنوان "جرانتي العزيزة" مثيرا للتساؤل عند البعض لكنه معلوما ومتداولا لدى آخرين وخاصة من أهل الفن والموسيقى. إنّ "الجرانة" هي الكمنجة القريبة من حبل الوريد والمجاورة للقلب والشاهدة على دقات حزنه وفرحه لذلك تتحوّل آلة الكمنجة إلى شخصية محورية في مسرحية "جرانتي العزيزة". وحتى وإن هي ليست من لحم ودم فإنها كانت سيدة الإحساس والأحداث. يسرد عرض "جرانتي العزيزة" قصة عازف كمنجة موهوب التحق بفرقة الإذاعة ليصبح أحد أعضائها، وخارج إطارها يسرد أهمّ المحطات المهنية والشخصية التي عاشها في استذكار لصفحات من تاريخ تونس الفني والسياسي لا تترك الجمهور على الحياد أمام فيض من الشعور والشاعرية وزحمة من المفارقات... هي قصة حب بدأت وانتهت، وحكاية شغف بالكمنجة وبالموسيقى قد تجبرها الظروف على تغيير نوتاتها وعزف النشاز رغم امتناع أوتارها !

سهل ممتنع وسرد ممتع

يصف فاضل الجزيري فنه بالسهل الممتنع الذي يبدو في ظاهره بسيط لكنه في باطنه عميق يبحر في موج الأسئلة ولا يعرف قرارا . وفي عرض "جرانتي العزيزة" قد يغيب التسلسل المنطقي وقد تتداخل التواريخ وقد تتقارب الروايات وقد تتضارب لكن حبل التشويق لا ينقطع. فالحكاية تلد حكاية أخرى، والحديث عن شخصية معينة يقود إلى استذكار أسماء أخرى وعزف الكمنجة يستدعي أصوات آلات موسيقي أخرى. وحده الحوار الرقيق والراقي بين التشيللو والبيانو والكمنجة قد يجعل من اللقاءات المستحيلة ممكنا ومن اللامنطق منطقا... فلا غرابة أن يجمع ركح "جرانتي العزيزة" بين شخصيات سياسية وأخرى فنية وبين مرجعيات موسيقية تونسية وأخرى أجنبية تستدعيها حكايات الراوي وأغنيات العرض لتكون الموسيقى هي عنصر التخلص المذهل والمربك والمدهش!
كما يستحضر عرض "جرانتي العزيزة" شواهد ووقائع من تاريخ تونس بكل ما عاشته من هزات وانتكاسات، خيبات وانتصارات، صدمات ومفاجآت... تستدعي الموسيقى أقطاب المسرح والموسيقى والغناء في تونس والعالم في تعداد لعشرات الأسماء والأسماء من الراحلين ومن الأحياء.
تتفرع القضايا في "جرانتي العزيزة" وتتداعي بانسياب المقطوعات الموسيقية وتقاطع الأحداث الدرامية وقد يكون من أهمها التطرق إلى واقع الفنان ما بين طموح الفن وقيود المادة، ووضعية المرأة الفنانة في تحديها للعراقيل وتمسكها بحقوقها ومكاسبها ... ولأنّ بطل المسرحية هو عازف بفرقة الإذاعة فكأننا بالعرض يطلق زفرة أسف وحسرة على فرقة الإذاعة التونسية بين ماض مجيد وحاضر تعيس.

 المسرح تطهير ... الموسيقى علاج

كان صوت "إشراق مطر" على ركح "جرانتي العزيزة" يشرق كالشمس نورا ودفئا وينساب كالمطر بكل عذوبة ليروي عطش النفوس التي يسكنها الحنين إلى ذكريات بعيدة و يتملكها القلق على شؤون الذات والوطن والمستقبل. كما تغيّر الفنانة إشراق مطر ثوبها وتسريحة شعرها من مشهد إلى آخر وفقا لما تتطلبه اللحظة الدرامية، فإنّ نبرة صوتها وطبقات حنجرتها تنخفض وتعلو حسب المقام الموسيقي لتقنع ولتبدع في الأداء والغناء لأكثر من ساعتين بطاقات صوتية أشبه بالسحر.

إلى جانب الحكاية/ الخرافة الكبرى التي يرويها فاضل الجزيري بطريقته المميزة ولغته التي تفوح بعطر تونس وأزقتها وشوارعها وأبواب مدينتها العتيقة ... يحضر الأسلوب القصصي بكثافة في عرض "جرانتي العزيزة" ليتحول كل الممثلين والعازفين دون استثناء إلى رواة لأحداث ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية عاشتها تونس منذ الاستقلال إلى اليوم.
عند مشاهدة عرض "جرانتي العزيزة" يستسلم الجمهور إلى الموسيقى لتحرك فيه الباطن والساكن ما بين دمعة وابتسامة، فتحصل اللذة والمتعة كما تحدث عنهما الفيلسوف "أرسطو" في نظرية التطهير (كاتارسيس)، وهو الذي يقول :" إنّ الإنسان يتمتع بمشاهدة المسرحية أو تمثيل الحياة، فيمكن لمشاعر الشفقة والخوف أن تستثار بعنف ثم تزال بالتطهير... "
وقد كانت الموسيقى هي الأصل والمتن في عرض "جرانتي العزيزة"، فحققت وظيفتها البسيكودرامية في العلاج كما كانت تستخدم منذ قرون بعيدة لطرد الطاقات السلبية والأرواح الشريرة حتى إن الإله "أبولو" كان عند الإغريق إلهاً للموسيقى والطب في الوقت ذاته.
في نهاية الرحلة، رحلة بلا أجنحة وبلا أمتعة بين نوتات "جرانتي العزيزة"، يحدث أن يسكننا عزف الكمنجة سواء كانت تبكي أو تنتحب... لندرك عمق ما قصده محمود درويش عندما قال: " الكَمَنجات تبكى على زمن ضائع لا يعود ... الكَمَنجات تبكى على وطن ضائع قد يعود" !

 

 

 

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115