مهرجان المسرح العربي: مسرحية "البخارة" اخراج الصادق الطرابلسي: تونس المسرح يدق نواقيس الخطر البيئة، فالمسرح صوت للانسان

مارس حريتك فأنت فنّان، امنح نفسك الحق لتكون صوت من لا صوت لهم، كن قبسا للحقيقة،

كن فعلا احتجاجيا فالفن رسالة للحقيقة وصوت للثورة والتمرد على كل اشكال الموت وتمظهراته هكذا هو المسرح فعل للاحتجاج وصرخة صاخبة وعنيفة تخرج مكن جوف الفنان وقلبه لتصدح بالحرية وتدافع عن حق الانسان في بيئة عيش محترمة وحقوق تحترم انسانيته هذه بعض الرسائل التي جاءت بها مسرحية "البخارة" اخراج الصادق الطرابلسي التي تمثل تونس في المسابقة الرسمية لمهرجان المسرح العربي في دورة مسقط 2025.

"البخارة" نص الياس الرابحي وتمثيل كل من رمزي عزيز ومريم بن حسن وعلي بن سعيد وبلال سلاطنية ومكي بليغ وتصميم الموسيقى لوضاح العوني وإضاءة محمد عربي حشاد وملابس نوال الاسود وفيديو نزار صالح وإخراج الفيديو محمد الحرقاني ومساعدة مخرج تماضر الزرلي وانتاج قطب المسرح بمسرح اوبرا تونس، والعمل سبق وان فاز بجائزة افضل عمل متكامل في مناسبتين مواسم الابداع الذي ينظمه المسرح الوطني وأيام قرطاج المسرحية دورة2024.

الممثل الواع بوّابة للنقد وصوت للاحتجاج

الممثل مركز القلب في الحدث المسرحي، الممثل هو الحامل لرسائل العمل والشخصيات المسرحية بأفكارها ومشاعرها، وفرحها هي البوابة الاولى لمعايشة الواقع ومعرفة القليل من رمزياته، الممثل بزاده الثقافي والمعرفي يوجه الشخصية نحو اقصى ابعاد الحقيقة في مشاهد العمل، في "البخارة" حمّل كاتبي النص الياس الرابحي والصادق الطرابلسي الشخصيات بوجع مواطنين يصارعون الموت يوميا، مواطنين يحلمون بحقهم في هواء نظيف وبعض اشعة الشمس، هذا الوجع نقله الممثلين بحرفية وصدق.

يبدع الممثل في ملامسة الوجع، يلعب بتلقائية وكأنه خارج الخشبة، ينحت الشخصية ويمنحها الكثير من روحه، المبدع رمزي عزيز في شخصية "المولدي" يمثل الجيل المتقدم، شيخ يعاني من مرض السرطان ويعاني من الزهايمر كذلك، بين الوعي واللاوعي تتأرجح الشخصية، حينا عارفة بواقعها ومرات تعيش في الماضي، عزيّز الصادق في ادائه عرف كيف يقدم الشخصية ويقنع جمهوره، بوجعها عبر انحناءة الظهر والصوت الهارب في الكثير من المرات مع نظرة تائهة لا قرار لها، رمزي ممثل صادق وحين اوجعته الشخصية كثيرا، خرج منها وعاد الى انسانيته ليقدم القليل من آلامه الذاتية في علاقة بمدينته الام قابس رمزي عزيز ممثل مخضرم له القدرة على النجاح كلما صعد على الخشبة لانّه واع بالشخصية وأبعادها فالتمثيل ليس مجرد الوقوف والنطق بكلمات بطريقة ما والحركة فوق الخشبة في ديكور مخصوص ولا هو مجرد البكاء بصوت مرتعش لكنه عملية ابداعية متكاملة تعنى بإظهار ما يكمن وراء النص المكتوب، وذلك في اطار ممارسة تكاد تكون علاجية هي ممارسة وجودية و عزيز مارس فلسفة التمثيل وأتقنها في البخارة.
الممثل حمّال معان وجسده الية لتفكيك النص المنطوق، وإعادة بعث الروح فيه بطريقة مختلفة، الشخصية المسرحية صوت الانسان من الخارج في "البخارة" تماهى علي بن سعيد مع كل الافكار المتمردة، كل الارواح الحالمة بالتغيير جمّعها في شخصية واحدة، "نضال" الراغب في التغيير، كاره واقعه والباحث عن مستقبل ومكان تشرق به الشمس، مكان يضمن كرامة الانسان، نضال الشخصية الثورية تشبه علي بن سعيد في شخصه لذلك كان التناص بينهما حقيقي جدا، فبن سعيد ممثل ينتمي الى جيل الثورة عرفته الساحات والمظاهرات ومواقفه الرافضة لكل اشكال الظلم مسجّلة في الساحات، و"نضال" الثائر اخذ من علي بن سعيد القوة والاختلاف، فكان اللعب المسرحي مميزا وكانت الشخصية الواعية بدورها واثرها جدّ مختلفة واقنع بن سعيد جمهور "البخارة" حدّ تمنّي ان تنسج بقية الشخصيات على منواله علّهم ينهضون من ركام الموت ويرحلون الى امتدادات الحياة.
الشخصية الرابعة "يحى" عامل بسيط، انهزامي راض بالقليل من الراتب ما يكفه للعيش، شخصية انهزامية بسيطة التفكير منعدمة الطموح، يحى قدمها الممثل بلال سلاطنية والشخصية مختلفة عما قدمه سابقا، حتى فيزيولوجيا هناك تناقض كبير بين يحى وبلال سلاطنية ولكن الممثل المتمكن من ادواته الدرامية عرف كيف يحوّل جسده وعنفوانه ويصبح انهزامية، منهكا للمتفرج، انهزامية يحيى ترمز للكادحين الراضين ببضعة ملاليم، الذين ينخرطون في العمل تحت وطاة الصمت والخوف حدّ الموت.
يتقن بملامح الشخصية، يلاعبها كعازف يلاعب البيانو، يرحل بها الى اقصى درجات الانتهازية، شخصية المستثمر بحضورها المقلق لمتلقي العمل، تلك الانانية المفرطة، شخصية تكرهها طيلة المسرحية، المستثمر الموغل في عوالمه الخاصة المبهجة والقائمة على وجيعة الناس قدمها الممثل مكي بليغ وأبدع في تجسيدها، فهو خبير بفن التمثيل وتلقائيته على الخشبة زاده للعب.
ابدعت الى اقصى الحدود، تلقائية حد التناص مع الشخصية، حضورها صنع الفارق في المسرحية، الشخصية النسائية الوحيدة والمساهمة في تغيير الاحداث والمؤثرة في مزاج كل الشخصيات تقريبا، سيدة العائلة ورمز الحلم فيها، مريم بن حسن قدمت الشخصية النسائية الوحيدة "دلال" زوجة "يحى" انثى تحلم فقط بإنجاب طفل، تحلم ان تكون أُمّا في مكان حتّى الحمل فيه امر صعب بسبب التلوّث، دلال حينا تزود الجمهور بطاقة من الفرحة وأحيانا تحمل على كاهليها وجع كل النساء، وتلقائية بن حسن وحرفيتها جعلتها تبرز في العمل وتكون قبسا لجمالية الأداء فالنص المكتوب ليس سوى مدخل او اشارة الى نص اخر منطوق ومتحرك، نصّ حيّ بشخوصه التي نراها ونسمعها ونحس آلامها وانفاسها وتجري في جوارحنا دمعتها، ودمعة دلال تبعتها دموع من المتفرج حين بوحها باصابتها بالسرطان، المرض الملازم لكن من يقطن ذاك المكان، او مساحة الموت.
في "البخارة" كان الممثلين افضل السبل لمعاكسة الواقع الموجع والتعبير عن خطر التلوث ودقّ نواقيس الخطر، بأجسادهم وأرواحهم وزعوا ملامح الوجيعة وتفاصيل الاحتجاج، فوعيهم بقيمة الشخصية المسرحية وقدرتها على التغيير كان الدافع لتلك الجمالية.

 

السينوغرافيا تمظهر من تمظهرات المسرح الاحتجاجي

خو خانق يسيطر على الفضاء الدرامي، الاضاءة شبه معتمة، الموسيقى صاخبة حينا وموغلة في الوجع أحيانا، الضوء سيكون المطية لتقسيم المشاهد وإبراز دواخل الشخصيات قبل الحوار، خمسة ابواب وأروقة على الركح، نهاية كل رواق باب نصف مفتوح، القليل من الضوء والكثير من العتمة وهي مناخات الشخصيات نفسيا وكذلك مناخات العمل مسرحي عموما، ففي مكان غابت عنه الشمس ستدور احداث المسرحية، لا وجود لزمان او مكان محددين لكن علامة واحدة بارزة "ويني الشمس" وهي الجملة الاولى المنطوق بها في النص ستكون الدليل لاكتشاف الحدث المسرحي وأين تدور القصة.
تنحت الاضاءة ملامح الشخصيات وتبرزها للمتفرج، تلعب الاضاءة دورها في الكشف عن تفاصيل المكان ورمزيات العتمة فيه، فالعتمة والإضاءة الخافتة يشبهان وجع الشخصيات، الاضاءة واستعمالاتها ليست اعتباطية في مسرحية "البخارة" فهي ستحيل المتفرج الى مكان يكاد ينقطع فيه الاوكسيجين بسبب التلوّث، مكان اصبحت رؤية الشمس فيه او السماء الصافية شبه مستحيلة، مكان يعيش داخله اناس لكنّهم يحيون شبه موتى، فلا ينعمون بهواء نقي ولا ماء صالح للشراب وحتّى القليل من اشعة الشمس يعتبر امنية صعبة المنال بسبب "المعمل" ماكينة الموت في ذاك المكان، ولان المسرحي غير منقطع عن واقعه وزمانه فالمسرحية تحيل في الكثير من المشاهد الى ما تعيشه مدينة قابس من اختناق بسبب المجمع الكيميائي وخاصة مادة "الفيسفوجين" حيث تُلقي الوحدات الصناعية للمجمع نحو 13 طنًا من "جبس الفوسفات" في البحر يومياً دون معالجة حسبما تُشير التقديرات، وهي المادة التي تشكل خطورة على البيئة وصحة السكان وأهل قابس الاكثر دراية بهذا الالم.
فقابس "الجنة" سابقا اصبحت مدينة للموت وفي احد المشاهد يخرج الممثل رمزي عزيز من الشخصية ويطلب من شريكته التوقف ويتوجه للجمهور ويقول " stop مريم لازم تحيرولي المواجع، كانت جنة على وجه الارض كان بها 180 عين ماء حلوة، صحراء وجبل وواحة، شبي العيون نشحت، الرمل سواد، النخل مات، العصافير هجّت (هاجرت)" فرمزي عزيز ابن مدينة قابس وشهد في طفولته على جمالها وفي المسرحية يخرج من الدور ويعود الى انسانيته ليستحضر المه ومنه وجع المدينة وكل من خبر جمالها وخضرتها.
المسرح فعل احتجاجي من هذا المبدأ قدم الصادق الطرابلسي نصا احتجاجيا ضد العبودية الحديثة وتجارة الموت، فالشخصيات المسرحية ستحمل على عاتقها ايصال العديد من الشيفرات فهم استكانوا لسنوات طويلة وعملوا في المعمل "ماكينة الموت" حدّ ان اصبح مرض السرطان رفيقهم اليومي وباتت الظلمة سندهم بعد امّحاء الشمس بفعل التلوّث، عبودية العصر الحديث تبرز من خلال حوار اول بين الشقيقين، فالعامل يطلب من شقيقه الذهاب للمعمل وتقديم اوراقه ولأنه خريج جامعة سيقبل حتما، فيجيبه الثاني "تريدني ان اذهب الى الموت، اراكم يوميا تتدافعون مثل العبيد قبالة مبلغ زهيد ومعه عقد كرامة من الدولة ب200دينار" واختار المخرج لشخصيته اسم "نضال" وللاسم رمزيته لأنه سيكون القادح للتغيير والحامل لأفكار ثورية ويحاول في اغلب الحوارات احياء عائلته شبه المخدرة ليطالبوا بحقوقهم.
العبودية الحديثة تتجسد في الحوار بين "نضال" وصاحب المعمل، فالأول يخبره انه وباسم كل الافكار الحرة يريد تنفيذ قرار اغلاق المصنع، فيجيبه صاحب راس المال "لن يغلق المصنع، لن ادافع عنه، فهناك 4000عائلة هي من ستدافع عن المصنع مورد رزقها وحياتها" وفي احد المشاهد يجد المتفرج المستثمر يجلس الى طاولته وكأسه ويشاهد خطابات نضال الاحتجاجية والغاضبة من خلال الشاشة وينتشي لها وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا، وعلى ايقاعات موسيقى "موزار" يسخر المستثمر من وجع العملة او الحلم في التغيير، لتصبح عذابات "البروليتاريا" وكأنها وجبة دسمة للسخرية تنعش روح صاحب المصنع، المستثمر في الموت، وهنا يطرح المخرج من خلال شخصياته التناقض الكبير بين الرغبة في حياة امنة والرضى بوضعية عمل مزرية تنتهك حق العامل وكرامته وحقه في بيئة سليمة قبالة ملاليم رمزية لن تفي بثمن الدواء او حصة علاج كيميائي واحدة، على هذه العبودية بتمظهراتها الحديثة يحاول نضال التمرد عبر نص احتجاجي وموسيقى صاخبة ستكون رمزا للثورة والتمرد وتحطيم كل القيود ابدع وضاح العوني في صياغتها لمسرحية "البخارة"، فإذا كان قانون العبودية قد الغي في تونس منذ 1841 فلماذا يرضى العامل في 2025 بعبودية تحت مسميات جديدة؟.

 

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115