وغياهب الاسطورة وسحر الموروث الموسيقي الشعبي للجهة، تنحت الاجساد حكاية مختلفة تمزج فيها الخيال بالواقع وتبعث الحياة في "الرقود السبعة" ليتحدثوا ويبوحوا بحكايتهم ثم تصل الرحلة الى متعة الاوديسا ليشاهدوا قوة وحكمة "اوليس" في تحديه لحوريات البحر باصواتهن الساحرة.
هكذا الرحلة ممتعة تصنعها اجساد الممثلين ونوتات وايقاعات موسيقية انبثقت من روح الجنوب التونسي في عرض "رحلة" انتاج جمعية فسيفساء بمدنين من اداء بوبكر الغناي وايمان الرحيمي وفردوس بوسهمين وصالح مقطوف وهبة اليوسفي ونجوى حمدي وامل عدالي واشرف عاشور، نص واخراج جلال حمودي وتسجيل وميكساج ايمن قباع وتلحين وغناء سامي بن ضو وتوظيب موسيقى محمد زياد بن ضو والعرض نبش في الذاكرة الموسيقية من تطاوين الى جربة.
الموسيقى صدى عنوان للنبش في الذاكرة المنسية
الموسيقى صدى للذاكرة وعنوانا للنبش في الحكايات المنسية، الموسيقى كانت وسيلة الثنائي زياد بن ضو وسامي بن ضو للرحيل بعيدا الى عوالم الاسطورة والخرافة وتحويل تلك الحكايات الى ايقاعات موسيقية وبحث في الموروث الشعبي والشفوي لانجاز موسيقى عرض "رحلة".
فالموسيقى الشعبية التونسية بايقاعاتها المحلية كانت المطية للرحلة الى الجغرافيا والخرافة، والايقاعات الراقصة الجنوبية الهوى ستكون وسيلة لاعادة استقراء الموروث واستنطاق الحكايات.
"رحلة" عمل موسيقي مسرحي بحث في الموروث الشعبي للجنوب انطلاقا من تطاوين ووصولا جزيرة جربة، مزيج من الهويات الشعبية انطلقت من بيت "يا برق اللي بان" للشاعر بوخريص الدغاري صاغ منه سامي بن ضو مجموعة من اللوحات الكوريغرافية والاغاني بتلك اللهجة الموسيقية المحلية المغرية بالانصات.
الموسيقى سيدة الحكاية فنوتاتها ستكون رفيق المتفرج في رحلته، من موسيقى الطبيعة الى الموسيقى التي صاغها الانسان، تجربة تلتقط شيفرات الجمال في اعالي الجبال وتعيد صياغتها بالكلمة واللحن، في "رحلة" حضرت العديد من الانماط الموسيقية المحلية وعرفوا بالرقصات المميزة للجهة من الفزاعي الى الدرازي والسمبالي والشالة الجربية، لتكون الرحلة مزيجا من الفنون عرّفت بمختلف الخطوات الشعبية لجهة الجنوب وقدموا لوحات راقصة قدّمت بعض العينات عن موروث تطاوين وجربة في الايقاع الحركي والايقاع الموسيقي.
العرض رحلة في خبايا سحر الاسطورة
اضاءة خافتة تضيء المكان تدريجيا، ستار ابيض وتحته سبعة اجساد نائمة، تتحرك الاجساد تدريجيا وكانها تنهض من سباتها، هم سبعة يرقصون، يثورون يضربون باقدامهم بقوة على الارض وكانهم يعبرون عن رفضهم لشيء ماء، يضاء فضاء اللعب كاملا ليجد الجمهور نفسه امام سبعة اجساد دون هوية، يتحدثون فنعرف انهم "السبعة وثامنهم الكلب" الهاربين من جبروت النظام واختفوا لليلة في الكهف، لكن في النص القرآني والاسطورة ستطول نومتهم وتلك الليلة اليتيمة ستكون الاخيرة ولن يكون هناك غد تماما كما تقول احداث العمل.
المكان في العرض امكنة، بعضها واقعي واخر متخيّل، الواقعي ستنطلق منه حكاية شاب مغرم بالتخييم سيهرب من ضوضاء المدينة الى الجبل تحديدا مدينة شنني تطاوين ولكن تجبره الامطار على الدخول الى مسجد "الرقود السبعة" للاحتماء منها ونيل قسط من الراحة وفي احلامه او كوابيسه سيرحل مع سكان المكان ويتجول معهم بين الخرافة والاسطورة وسيسمع حكاياتهم ويشاهد بطولات من مروا بتلك الامكنة.
يمثل النص الديني (سورة الكهف الاية22) والاسطورة المدخل الاساسي لعرض "رحلة" منه انطلقت عملية كتابة النص المسرحي الشعري الذي صاغه جلال حمودي مخرج العرض، اسطورة "الرقود السبعة" او "اهل الكهف" كما يعتقد سكان مدينة شنني ستكون بداية العمل وسبيل الرحلة التي صيغت موسيقيا وكوريغرافيا، فتركوا للجسد الحرية لينقل موروث الجهة ومعتقدات واساطير سكانها.
"الرقود السبعة" بين الاسطورة والحقيقة تعتبر من مقدسات اهل شنني، فابناء القرية يؤمنون ان قصة اهل الكهف المذكورة في القران حدثت فعلا في قريتهم والدليل "القبور السبعة" الطويلة على غير طول انسان اليوم، كذلك الحجر الكبير الموجود في باب الكهف بالاضافة الى تعامد الشمس مع فتحة الغار " أنّ الشمس تزاور يومياً فتحة الغار عن اليمين في الشروق، وتقرضه ذات الشمال إذا ما غربت؛ أي إنّ الشمس تميل عن فتحة الغار عند مشرقها ولا تصيبه عند الغروب" حسب التصريحات ابناء القرية.
ينهض الرقود من سباتهم، يتساءلون عن ثامنهم "الكلب" فوحده رفيق رحلتهم ثم تصاغ العديد من المشاهد الراقصة التي تضاهي نومتهم ورغبتهم في الخروج من الكهف، ايقاعات تونسية الروح وموسيقى ابدع سامي وزياد بن ضو في صياغتها لتكون صادقة وتخترق القلب وتجبر المتلقي لاستخدام كل حواسه.
ترقص الاجساد وتتغير المشاهد الراقصة فالشاب الانسان يجد نفسه جزء من الحكاية، يرقص معهم، يحاول مجاراتهم في الخطوة ويقلدهم في الطريقة المنفلتة للتعبير، تنطلق رحلته من شنني حتى يصل الى الجزيرة ويبدأ من السمبالي (ايقاعات من تطاوين تختلف عن السطمبالي من حيث طريقة الرقص والالات المستعملة) التطاويني الى الشالة الجربية، ومن قصة "اهل الكهف" السبعة الى اسطورة "اوليس" سيد البحار الشجاع، اوليس الذي تحدى جمال اصوات الحوريات وموسيقاهم وربط الى السارية حتى تتجاوز سفينته لعنة الحوريات.
تلك الاسطورة المتوارثة في الجزيرة قدمت على الركح في لوحات راقصة وبايقاعات موسيقية محلية مصحوبة برقصة الفرح الشالة التي تميز جربة عن غيرها ليكون الرقص في العمل مساحة للتحرر ووسيلة لفهم الموروث الشفوي للجنوب التونسي والانصات لحكايات الحب والخوف والتقاط لرسائل الجمال عبر ثنائيتي الرقص والموسيقى.
تتعدد الاساطير الراسخة في المخيال الشعبي التونسي، والعديد من الاساطير يتعامل معها مريديها وكانها الحقيقة وطالما كانت الاسطورة ملهمة للفنانين ليبدعوا وينحتوا مساحات من الجمال البهيّ والمسرح فنّ طوّع الاسطورة لتقديم اجمل الاعمال وكانت الاسطورة ملاذا للمسرحيين ليتجولوا في عالم الخيال والتجديد وعرض "رحلة" هو رحلة مميزة مزجت تلوينات فنية مختلفة دافعت عن الموروث الموسيقى للجنوب التونسي.