دخل الشارع السياسي الفرنسي في دهشة وانشغال مع اعلان الرئيس إيمانويل ماكرون حل البرلمان واستدعاء الناخبين لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها يومي 30 جوان و7 جويلية 2024.
ودخلت فرنسا في "حالة اضطراب" حسب عبارة بريس تانتوريه المدير العام لمؤسسة "إبسوس" لسبر الآراء. وشهدت شوارع المدن الكبرى ليلة يوم الإثنين مظاهرات شبابية ونقابية عفوية عبرت عن استيائها من النتائج ومن "خطر التجمع الوطني" على الجمهورية والديمقراطية. ومع هيجان الشارع، انطلقت المناورات والمشاورات لصياغة الفرق المتنافسة واختيار الشخصيات التي سوف تدخل حلبة الصراع الانتخابي في كل دائرة انتخابية.
في نفس الوقت، يحتم قرار الرئيس ماكرون غلق البرلمان وإيقاف كل مشاريع القوانين في الجمعية العامة وتسريح المتعاونين الخارجين وإيقاف كل الأنشطة البرلمانية. وتبقى الحكومة في مكانها لتواصل عملها بدون أن تتمتع بحق سن القوانين. لكن يمكنها، حسب الدستور، إدارة الشأن العام عبر المراسيم في غياب البرلمان. يأتي كل ذلك في جو من الغموض على مستقبل البلاد التي تستضيف نهاية شهر جويلية الألعاب الأولمبية الصيفية.
وحدد اعلان حل البرلمان الصادر في الرائد الرسمي الفرنسي موعد الانتخابات في دورتين الأولى يوم 30 جوان والثانية يوم 7 جويلية. مما لا يترك سوى 20 يوما للأحزاب والنواب المترشحين لخوض المعركة الانتخابية. وهي أقصر مدة تسجل في تاريخ الجمهورية الخامسة. ويتعين على المرشحين أن يقدموا رسميا أوراق ترشحهم ابتداء من الأربعاء 12 جوان إلى الأحد 16 جوان على الساعة السادسة مساء. وضع قانوني جعل الأحزاب تدخل في عملية سباق ضد الزمن لتجهيز نفسها وضمان مشاركتها في هذا الاستحقاق.
لعبة البوكر الرئاسية
عبرت عديد الشخصيات السياسية والنيابية عن استيائها من قرار ماكرون. واعتبرت بعض الوجوه أنه "يلعب بالنار" لإجبار الأحزاب الدخول في انتخابات جديدة علما بمستوى نجاح اليمين المتطرف. وذهب بعضهم إلى القول إن الرئيس "يلعب البوكر" بمصير الفرنسيين موجهين له تهمة فرش السجاجيد أمام اليمين المتطرف للاستحواذ على السلطة. وتستند الأحزاب في انتقاداتها إلى واقع الأرقام الذي أظهر أن التجمع الوطني تصدر النتائج في 93% من الدوائر البلدية وأن ذلك الوضع يمهد لنجاحه مجددا في الانتخابات التشريعية. مع العلم أن حزب "النهضة" الرئاسي لم يحصل إلا على 14،6% من الأصوات وهو ما لا يمكنه من صد الطريق أمام اليمين المتطرف.
وأعلن الرئيس ماكرون، الذي ألقى خطابه الذي أعلن خلاله حل البرلمان يوم 9 جوان، انه سوف ينظم ندوة صحفية عشية يوم الثلاثاء للرد على تساؤلات الصحفيين، وذلك في خطوة لتبرير قراره الذي لم يلق ترحيبا داخل حزبه وفي صفوف النواب في الجمعية الوطنية. وحسب ما تم تسريبه من قصر الإليزيه، فإن الرئيس ماكرون يريد طمأنه مناصريه ودخول حلبة الصراع شخصيا لقيادة المعركة الانتخابية.
التجمع الوطني كقوة محورية
نتائج الانتخابات الأوروبية أرست مشهدا سياسيا جديدا يحتل فيه التجمع الوطني المركز الأساسي ويصبح الحزب الأول في البلاد. مع اعلان الدخول في حملة انتخابية تشريعية انطلقت قيادة الحزب في تنظيم صفوفها وأعلنت مارين لوبان "إننا جاهزون". شعار كرره رئيس الحملة الانتخابية الشاب جوردان برديلا (28 عاما) الذي مكن الحزب من الحصول على 31،5%. لكن هذه النسبة لا تمكن الحزب ، في إطار الانتخابات التشريعية في دورتين، من ضمان أغلبية واضحة. وهو ما جعل زعماء الحزب يشرعون في مغازلة حزب الجمهوريين المحافظ الذي حصل على 7،2% من الأصوات. إن نجح في ذلك سوف يضمن ألا تذهب تلك الأصوات للشق المنافس وفي نفس الوقت أن تتحول لفائدة مرشحي التجمع الوطني في الدورة الثانية. لكن إريك سيوتي، رئيس حزب الجمهوريين، أعلن يوم الأحد أن حزبه لن يدخل في أي تحالف مسبق قبل الانتخابات. مع ذلك عبرت عديد الشخصيات المركزية في الحزب عن تخوفها من قرار إريك سيوتي المعروف بمواقفه الراديكالية المطابقة، في بعض المسائل، لخطاب التجمع الوطني. وطالب غزافييه برتران رئيس جهة شمال فرنسا إريك سيوتي بتوضيح موقفه من إمكانية التحالف مع اليمين المتطرف بدون أن يحصل على إجابة إلى حد كتابة هذه الأسطر. وعبرت مارين لوبان عن استعدادها للتصويت لصالح نواب من حزب الجمهوريين لضمان عدد من النواب في إطار التحالف. نجاح التجمع الوطني يهدد مباشرة حزب الجمهوريين الذي يخضع كذلك لمغازلة حزب "النهضة" على يساره ويهدد بانقراضه في صورة لم يدخل في تحالف مع أحزاب أخرى بسبب عزوف الناخبين المتزايد عنه.
من ناحية أخرى نظم حزب مارين لوبان اجتماعا مع ماريون ماريشال لوبان لقاء للتشاور في ائتلاف انتخابي بدون التوصل إلى حل نهائي. ويعتبر المحللون في باريس أن مارين لوبان تعتبر أن حزب "روكونكات" التي تتزعمه ماريون ماريشال هو نتيجة لإنسلاخات من التجمع وأن زعيمته الحالية "حاربت" التجمع في السابق وليس لها ما تقدمه.وتعتبر مارين لوبان أنه من الأجدر التوجه مباشرة إلى ناخبي حزب "روكونكات" عوض التفاوض السلبي مع زعيمته. ولإظهار قوة حزبها أعلنت مارين لوبان أن جوردان بارديلا سوف يقود الحملة الانتخابية وهو "الوزير الأول المقبل" اعتمادا على اتفاق "ثنائي السلطة التنفيذية" الذي أقامته معه والذي يمنحها حق الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2027.
اليسار و"الجبهة الشعبية" الجديدة
في الشق الآخر من المعادلة السياسية، تمكنت أحزاب اليسار ليلة الإثنين في بلورة نظام وحدة جديد أطلق عليه اسم "الجبهة الشعبية"، على غرار تلك التي تكونت في ثلاثينيات القرن الماضي تحت وعامة ليون بلوم.وكانت نفس الأحزاب قد شكلت كتلة انتخابية عام 2022 تحت عنوان "نوباس" أي الوحدة التقدمية والإيكولوجية والمجتمعية الجديدة تحت قيادة جون لوك ميلونشون انحلت قبل الانتخابات الأوروبية. لكن الوضع هذا العام ليس هو الذي ساد عام 2022 والذي مكن اليسار من الحصول على 151 مقعدا في البرلمان.
الأحزاب الحالية، الحزب الاشتراكي( 13،83%) وحزب فرنسا الأبية ( 9،89%) وحزب الخضر( 5،5%) والحزب الشيوعي ( 2،5%) ، تدخل المعركة بقوى مختلفة و بعد حملة انتخابية تضاربت فيها المصالح والأطروحات ولم تمكن مجموع الأحزاب من التصدي لخطر اليمين المتطرف. تدني حزب الخضر والحزب الشيوعي لا يساعد في المرحلة الحالية. ونمو الحزب الإشتراكي بقيادة رافائيل غلوكسمان يشق الطريق أمام حزب فرنسا الأبية. لكن بالرغم من الإنشقاقات اتفقت هذه الأحزاب على جملة من المبادئ الأساسية.
الأول تمثل في تحييد جون لوك ميلونشون كشرط أساسي لتفعيل الوحدة وتركه، كما قرر هو سالفا، لمرحلة الانتخابات الرئاسية. وذلك يخضع إلى مبادئالتفريق بين التشريعية والرئاسية والتعامل مع الحزب لا مع الأشخاص، وعدم الخوض في الأشياء التي تفرق مثل دعم الفلسطينيين والتركيز على ما يجمع كل الفصائل. وكان موقف رافائيل غلوكسمان حاسما في مسألة الوحدة بعد أن أكد في حديثه للقناة الثانية التلفزيونية أنه وضع 5 أسس، لا نقاش فيها، للدخول في وحدة ما باقي الأحزاب اليسارية.
وتمثلت هذه الأسس في دعم المشروع الأوروبي أولا. ثم أن تساند كل الأحزاب الشعب الأوكراني في الدفاع عن سلامة أراضيه. الشرط الثالث هو أن يتم التخلي، في حالة الفوز، عن قانون التقاعد الجديد وقانون البطالة وقانون الهجرة. رابعا، أن تؤكد كل الأحزاب مبدأ التسريع في التحول الإيكولوجي. وأخيرا طالب غلوكسمان بالتخلي عن العنف في السياسة ونشر الأخبار الزائفة والتعدي على كرامة الآخرين. وهو شرط موجه لجون لوك ميلونشون ولبعض وجوه حزب فرنسا الأبية. ولم يكن من السهل، اعتبارا لضيق الوقت، أن يتم التوافق على برنامج سياسي كما حصل عام 2022. بل بادرت الاحزاب بالإعلان عن تشكيل "الجبهة الشعبية" والاكتفاء بمسألة شق الطريق أمام التجمع الوطني ومطالبة "كل القوى الإنسانية اليسارية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني والمواطنين" بالدخول في مشروع "تشكيل بديل لإيمانويل ماكرون ومقاومة المشروع العنصري لليمين المتطرف."
سيناريوهات المستقبل
نقطة البداية لكل الأحزاب تبدأ بتعيين المرشحين للانتخابات وإقرار من يبقى في السباق من النواب الحاليين ومن يعوض الذين سوف ينسحبون. وهي عملية معقدة في داخل كل حزب على حدة وكذلك بالنسبة للمجموعة السياسية المتحالفة. ولا بد أن تتم هذه العملية قبل يوم الأحد 16 جوان على الساعة السادسة مساء. تبقى بعض المشاكل المتعلقة بالأحزاب وبالتنافس على الزعامة وبقدرة المساهمين في تشكيل الجبهة الشعبية على ضما عدم التراجع على المبادئ الأساسية الضامنة للوحدة.
بعد الإعلان عن تشكيل "الجبهة الشعبية" اليساري، الأنظار تتجه إلى شق الرئيس ماكرون الذي قرر حل البرلمان. التحركات الأولى أظهرت "تغييب" الوزير الأول غابريال أتال وبروز الوزير الأول الأسبق إدوارد فيليب صحبة وزير المالية برونو لومار لإدارة المرحلة. لكن ملامح التشكيلة لن تكتمل قبل أن يقررها الرئيس بنفسه. رهان ماكرون في حل البرلمان يفرض عليه أن يجد صيغة لتجميع مناصريه أولا ثم للبحث عن تحالفات خارج عائلته السياسية، وهو الرهان الحقيقي الذي يصعب حاليا التكهن في شأنه بسبب حدة المعارضة التي يعيشها والتي تصل في بعض الفئات إلى الكراهية. بحصوله على 14،6% في الانتخابات الأوروبية لا يرى الملاحظون كيف يمكن للحزب الرئاسي أن يحقق نجاحا بنسبة 50% في الانتخابات القادمة. لكن السياسة ليست علما صحيحا وكل الاحتمالات في التحالف واردة مع حزب الجمهوريين مثلاوأحزاب الوسط.
يبقى أن أول عمليات سبر الآراء التي نشرت يوم الإثنين أشارت إلى تقدم التجمع الوطني بنسبة تتراوح بين %32 و34% في حين تحصل الجبهة الشعبية على 22%, أما الحزب الرئاسي فتقدر نسبته بما يقارب 19%. ويبقى السباق الأساسي بين اليسار والحزب الرئاسي اعتبارا أن حزب الجمهوريين اليميني يمكنه الفوز ب9% من الأصوات.