الفيلم السوداني الفائز بجائزة الحرية في "كان". فيلم "وداعا جوليا" لمحمد كردفاني في تونس: وجع الهروب من عنصرية العرق الى عنصرية السياسة

السينما صوت الانسانية، مرآة تعكس الواقع وتنقل حكايات المجتمعات وحقائقها لبقية الشعوب،

هي وسيلة لتقريب الاراء المتناقضة والأفكار المتنافرة ربما، السينما وثيقة تاريخية صادقة تعرّف الاجيال القادمة بما حدث اليوم والكاميرا كانت سلاح محمد كردفاني لينقل وجع السودان المنقسم الى جزأين ويحمل هواجس المواطن الجنوبي والشمالي الى جمهور الشاشة الكبرى.

الكاميرا كانت صوت المستضعفين والباحثين عن شتات وطن نقلها المخرج ووصل بها الى العالمية في فيلم "وداعا جوليا" تمثيل ايمان يوسف وسيران رياك ونزار جمعة والفيلم ينقل صراعات ابناء السودان قبل انفصال 2011.
بين "منى" و"جوليا" اختلاف يعكس خلافات المجتمع السوداني

تصنع النساء الحدث، تساهم النساء في كتابة تاريخ الاوطان وتصنعه وان لم يكنّ في مصدر القرار او السلطة، في الفيلم سيفهم القارئ وجع السودانيين وأحلام السودانيات من خلال شخصيتين متقابلتين حد الاختلاف ومتصلتين حد الفراق، هنّ منى (ايمان يوسف) وجوليا (سيران رياك).
امرأتين سودانيتين ولدتا في الخرطوم (شمال السودان) لكنهما لا تتمتعان بنفس الحقوق والحظ، فالاولى "منى" عربية، مسلمة شمالية ابنة الشمال منذ القديم، اما الثانية "جوليا" جنوبية، مسيحية مولودة في الشمال لكنها اصولها من احدى قرى الجنوب، تجتمعان، تتشاركان الحكايات وتصنعان الحدث.
في اجتماع "منى" و"جوليا" يكتشف المتفرج وجع العنصرية بين ابناء البلد الواحد والقرية الواحدة، يلمس الجمهور الم اغتراب ابناء الجنوب في الخرطوم اين ولدوا ودرسوا وصنعوا أحلامهم، يكتشف متفرج الفيلم مدى حدّة الشمالي في تعامله مع الجنوبي والعنف الدائم والعنصرية المقيتة المتوارثة، عنصرية الدين والعرق.
"منى" سيدة مجتمع، زوجة لرجل ميسور لا تعمل تعيش من ورثها، اما "جوليا" فأنهكتها الحياة تعمل لإعالة وحيدها، تحاول فقط الحياة في وطن دمرته الحروب، كلتاهما تتشاركان الخوف من الحرب، تعتقد منى لقلة خبرتها ان الحرب تنتهي فتجيبها جوليا الحكيمة بسبب الرفض الدائم "في بلدنا لا تنتهي الحرب ابدا".

العنصرية الوجه القبيح لبلد مدمّر

العنصرية هي التيمة الابرز للفيلم، تتجلى في كل الشخصيات، عنصرية الشمالي ضد الجنوبي، عنصرية المسلم ضدّ غيره من الأعراق، فأكرم يرفض الجنوبيين ويتهمهم بالعبيد "الى سنوات قليلة كان جدي يملك عبيدا وجواري" كما يقول في مناجاته لزوجته، عنصرية الدين تنجي اكرم من عقوبة قضية قتل بسهولة "الزول الجنوبي حاول الاعتداء على بيتي" كما يتحدث لجاره والشرطة التي انجته من العقوبة فقط لان "الضحية جنوبين مسيحي".
شخصية منى التي آوت "جوليا" الجنوبية هي الاخرى تمارس عنصريتها دون وعي من خلل مشهد وصم الكؤوس والصحون باللون الاحمر حتى تكون من نصيب جوليا وابنها ولا تمسّ من مواعين اصحاب البيت، عنصرية في لاوعيها رغم محاولاتها لكسب صداقة جوليا وإخبارها بأسرارها وكذبها المتكرر على زوجها اكرم.
العنصرية ليست في اللون او العرق بل بين المراة والرجل، فالرجل له الافضلية في المجتمع والمرأة تعيش عنصرية الخوف اما بسبب عدم الحمل، او تترك احلامها تلبية لقرارات زوجها كما فعلت "منى بتركها الموسيقى والغناء لان زوجها مسلم ملتزم، المراة تتعرض للتحرش فقط لانها دون "رجل"، فالعنصرية في السودان لا تقتصر على الانتماء او الدين بل لعنصرية الجندر وجودها ايضا.
العنصرية بين السلطة وابناء الشعب تجسدت في مشاهد عديدة اولها طرد الحاج لـ"سنتينو" وزوجته "جوليا" من بيتهم بسبب رفض الجيران لوجود جنوبيين بينهم، ثم مشهد حرق الخيم والمنازل القصديرية المتناثرة التي بناها الجنوبيين لحماية انفسهم من عري السماء، السلطة لم تتحرى في البلاغات الكيدية لانّ مقدميها من ابناء الشمال، كما انّ رجال البوليس يعدمون اوراق "الجنوبي القتيل" مقابل اوراق مالية قليلة.
العنصرية التيمة الابشع بسببها عاشت السودان حربا اهلية لمدة 22عام من 1955لى 2005 وابناء البلد الواحد يتناحرون، حرب راح ضحيتها قرابة مليوني شخص وتشرّد اربعة ملايين أخريين، حرب لم يختف وطيسها رغم الامضاء على اتفاقية "نيفاشا" ورغم حصول الجنوب على حكم ذاتي اقليمي مع التمثيل في تقاسم السلطة الوطنية منذ 2005.
حرب انعكست آثارها على وجه جوليا وعناد ابنها دانيال، حرب تركت آثار الخوف والتردد والخراب الداخلي وشروخ مزعجة جسّده محمد كردفاني عبر الشرخ في سطح البيت الذي يقطر رغم الاصلاحات المتكررة، كذلك السودان لم تنفعه الاتفاقيات ولا المعاهدات طالما العنصرية والخلل في الانسان نفسه.

السينما استشراف المستقبل في بلد لا تنتهي فيه الحرب

تدور احداث الفيلم بين 2005و2011 فترة ذروة الحرب الاهلية بين سلطة الشمال وابناء الجنوب الراغبين في الانفصال بحثا عن وطن يحترم اختلافهم وطن مزهر يشعّ فيه الامل كما تقول شخصية "ماجير"، في الفيلم يتتبع المخرج سير الجنوبيين وأحلامهم في بناء دولة الجنوب المزدهرة والحرة بعد الانفصال وتنقل الكاميرا احداث الانتخابات التي صوّت فيها 90بالمائة من الجنوبيين على الانفصال، ومن هنا جاء عنوان الفيلم "وداعا جوليا" فجوليا المولودة في الخرطوم تجبر بعد الانتخابات على المغادرة جنوبا عبر البحر رغم ايمانها بوحدة ابناء السودان ورفضها لفكرة الانفصال لكن لعنة العنصرية تلاحقها.
ولان السينما فعل استشرافي ولان الكتاب يتشاركون مع الانبياء في التنبؤ ينتهي الفيلم بمشهد للطفل "دانيال" حاملا السلاح في احدى السيارات المتوجهة الى مكان ما، صورة لخصت ضياع احلام الاطفال فمنذ الانفصال حددت اليونيسيف نسبة 12الف طفل حاملا للسلاح في الحرب الدائرة في الجنوب منذ 2013، حرب اعتقد ابناء الجنوب انها ستنتهي بميلاد وطنهم الجديد لكنها زادت شرارة وتشرّد بسببها الهاربين من عنصرية الشمال الى عنصرية السلطة والكرسي.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115