فالوقت معيار للنجاح، للفشل، للحب والخوف، فماذا لو توقف الوقت في لحظة زمنية وعمرية ما؟ ماذا لو قرر الوقت التوقف لمدة غير معلومة واجتمع في مكان واحد مجموعة من الناس ليفتحوا دفاترهم الخاصة في انتظار عودة الوقت الى عمله؟ وكيف يكون الحوار لو كان فضاء الاجتماع محطة للقطار، ذاك المكان المليء بالضجيج وحركات المسافرين وسرعة القطارات يعيش جمودا فجاة بسبب توقف الوقت؟ هكذا تساءلت بريجيت باردو في نصها المسرحي " « bon voyage Mr Bellock الذي اقتبس منه منير العماري عوالم عمله الجديد "hors temps" وحافظ المخرج على لغة النص الاصلية وقثدّم بلغة موليير امام جمهور التياترو.
المسرحية من تمثيل سلمى بن يوسف ومهدي الكامل وبثينة فرشيو ويسر قلعي وغسان حفصية واميرة لعريف وصوت Olivier morisset، سينوغرافيا واضاءة صبري العتروس وتقني صوت محمد هادي بلخير .
على الركح تصنع ثورات النساء
اربعة كراس تتوزع على الركح ستكون وسيلة لتقسيم المشاهد وتتحول من مجرد كراس الى وسائل تقنينة وتيمات فنية تساعد الجمهور على فهم احداث العمل، عشرون فانوس باضواء ساطعة تضيء كل تفاصيل الركح فالاضاءة ستكون بمثابة الشخصية الثابتة في المسرحية من خلالها يفهم المتلقي حركات الممثلين وطريقة تفكريهم وكيف توزع مشاعر الحب والخوف بينهم، فضاء الاحداث ثابت هو محطة قطار مدينة "فولفوك" في المحطة ستجتمع شخصيات، اول العمل يكونون غرباء ومع تقدم الحكاية سيحدث التعارف وتقدم من خلال النص المنطوق العديد من الرسائل النقدية للمجتمع والسياسة.
"ثرن واصنعن لأنفسكن مساحات من الحرية والثورة، ثرن لأنكن قويات وتستحققن الافضل" جملة ستتكرر كثيرا بين طيات العمل، فالنص ينتصر للنساء وثوراتهن، ينصت لوجع الانثى الدفين ويحفزها على مواجهة ضعفها امام مرآة الذات والمجتمع.
فلكل شخصية نسائية وجعها الدفين وسبب للضعف تحاول طالبة الحقوق انهائه ودفعها لتثور، تشترك الشخصيات النسائية الموجودة في العمل في فكرة السجن، كل واحدة سجينة منظومة ما، السيدة "ميرندا" سجينة منظومة مجتمعية حكمت عليها بالبقاء عزباء فقط لانها صارمة الملامح وغير جميلة، الزوجة محكومة بزوج خائن ومنظومة زوجية مهترئة حفاظا على بقايا حبّ بال، العاشقة مسجونة في منظومة قيمية منعت حبّها لاختلافها، وحتى طالبة الحقوق كانت لسنوات سجينة منظومة الزواج والفراغ فجميعهنّ تشاركن الوجع والخوف.
خوف ليس تونسي فقط بل يمس كل النساء في العالم، فالمنظومات السجنية بمختلف تسمياتها توجد في كل البسيطة وكل امرأة تعاني من منظومة ما، وعلى الركح تحاول النساء التحرر وكل منهنّ تبحث عن نقطة ضعفها لتصنع منها قوة وثورة.
فخارج الزمن نساء يحلمن ببعض السلام، خارج الزمن نساء يردن الحب وخارج الزمن نساء حالمات لهن القدرة على اسقاط المنظومات السياسية والاقتصادية وحتى السلطات العسكرية والحكومات المتشددة، "خارج الزمن" بين المسرح والواقع تشابه واختلاف، فالعمل تجسيد لمعنى الثورة وسؤال حارق عن حقوق النساء ووضعهنّ في هذا العالم الذي كثرت نصوصه وقوانينه ودساتيره المدافعة عن النساء لكن هناك الكثيرات ممن لم تصل اليهنّ فكرة الثورة والحرية ولازلن سجينات المنظومة خاصة العائلية ومنظومة الزواج.
المسرح فعل سياسي ونقدي
"خارج الزمن" عمل يشاكس السياسة، مسرحية تضع تونس على طاولة التشريح وكعادته ظل منير العماري وفيا لمسرحه ولمناقشة اوضاع البلاد ومشاكلها وطرحها بجراة على المسرح، في العمل تتغير الحكومات، تحدث الثورات لكن النتيجة هي "العدم" لم تتغير وضعية المسافرين وظلوا عالقين في المحطة في انتظار عودة الحياة للوقت المتوقف.
يضع المخرج والممثلين اسقاطات فنية على الوضع الاجتماعي والسياسي للبلاد على خشبة ركح التياترو المعروف بمساندته لكل الحركات التحررية والثورات المدافعة عن حقوق الاقليات، تونس بحكوماتها المتعاقبة ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية توضع على طاولة التشريح المسرحي ويقدمها مجموعة من الممثلين خبروا شخصياتهم وتماهوا معها وعملوا عليها لمدة اربعة اشهر مع المخرج، فالمسرحية نتاج عمل تفاعلي وورشات تدريبية.
"خارج الزمن" مسرحية باللغة الفرنسية لكن بروح تونسية خالصة، معالجة درامية تونسية، بعض الكلمات التونسية تقال وسط العمل، تفاعل الممثلين مع الشخصيات والمشاهد تونسية بحتة تمسّ الانسان التونسي وتدفعه للضحك والسؤال ايضا، عمل خارج المنظومة التقليدية له مميزاته وسينوغرافيا مبهرة ابدع صبري العتروس في نحت تفاصيلها وهو الخبير بقيمة الصورة وتاثيرها في المتلقي.
في المسرحية ينتظرون القطار، لحظات وساعات من التوقف ستتحول الى مساحات للبوح، عملية pause بنى عليها العماري حكايات شخصياته، وضع البلاد في حالة توقف كامل وجلس خلف كرسي الاخراج يفرغ البلاد من مشاكلها ويضعها جميعها على الورق الابيض ثم بنى الشخصيات والبسها روح متمردة لتحاول الثورة وتنجح في صناعة واقع افضل، الى حين نهاية المسرحية لم يتحرك القطار من مكانه وبقيت الشخصيات تصارع ذواتها وربما اشارة الى بقاء العديد من المنظومات في تونس خارج الزمن منذ الثورة الى اليوم، العديد ممن وصلوا الى كرسي السلطة (بتمظهراتها المختلفة) بقي خارج زمن التغيير والاصلاح وهو ما ترمز اليه بعض شيفرات العرض المسرحي.