رواية "الملف الاصفر" لاميرة غنيم: المرض النفسي: حبّ حدّ السادية وشبقية حتى الموت

في محراب الكتابة تصلي بخشوع،

تفرش ارضها كلمات تبرع في ترصيفها وتصلي الى نصوصها خاشعة، هادئة حتى تتحول الكلمات والنصوص الى روحانيات عالية كما المغناطيس يجذب اليها القارئ ويجبره ان يكون جزء من النص، يتشارك وجع الشخصيات ويسقط واقعه والمه على النص المقروء.

فالكتابة صلاة مقدسة ولاميرة غنيم ترتيلها الخاصة وصلاتها جدّ المميزة، طقس روحاني يشبه اعادة الخلق من جديد وهي بارعة في ترويع قارئها وتطويع مشاعره وافكاره لتنسجم مع نصّها المكتوب ببساطة وعمق عجيبين، فالكتابة والصلاة كلتاهما وجهان لفعل واحد في نص "الملف الاصفر" لاميرة غنيم، وهي رواية حاصلة على جائزة راشد بن حمد الشرقي للابداع،، صادرة عن دار POP LIBRISفي طبعة ثانية عام 2023 وصمم الغلاف هناء الوسلاتي والرواية جاءت في 306من الصفحات.

في غياهب الالم النفسي تدور احداث الرواية

يقال ان الترياق الافضل للقارئ العليل هو الكتابة واعادة الكتابة عن نصوص اميرة غنيم متعب للروح والفكر معا، فهي القارئة النهمة والكاتبة العالمة باسرار اللغة والعارفة كيف تأسر قارئها وتجبره ان يكون طوع النص لجمالية اللغة والمفردات المستعملة، والقارئ العليل سيحاول التملص من الوجع بالكتابة عن شخصيات تشبهه في الوجع والرغبة في الانعتاق، كل قارئ سيجد نفسه في احدى الشخصيات حسب انفعالاته النفسية وانتماءاته الروحية والفكرية، لكنه سيكون أسير النص حتما فالملف الاصفر بغموضه واسراره مربك للقارئ ومن يريد اعادة الكتابة عن نصّ ابدعت غنيم في نحته.
"الملف الاصفر" هو عنوان الرواية الاولى لاميرة غنيم الصادرة عام 2020 والحاصلة على جائزة راشد بن حمد الشرفي للابداع لكن الرواية تأخر وصولها الى تونس وصدر قبلها نصها الثاني "نازلة دار الاكابر" ونجح النص الثاني واعتبرت الرواية الاكثر مبيعا وقراءة، ثم سنحت الفرصة ليصل المولود الروائي الاول "الملف الاصفر" الى القارئ التونسي، في مناخاته الابداعية والروائية المختلفة تماما عن "نازلة دار الاكابر" ونجح النص في شدّ القراء لاختلاف الاسلوب وقدرة الكاتبة على تطويع اللغة، فنصوصها ساحرة ولغتها شاعرية ليكون الملف الاصفر كما اللوحة التشكيلية مزدانة بالالوان مع سيطرة الاصفر لون القلق ومنه تنطلق رحلة مخاض الشخصيات والقارئ.
تختار غنيم لقرائها شخصية تجمع كل الثنائيات، الفشل والنجاح، الرغبة في الحياة والميول الانتحارية، الرغيبة في نحت شخصية مبهرة والدخول في دهاليز الفشل الدائم، تختار لشخصيتها المحورية اسم "غسان الجوادي" ابن العاصمة، عاشق للشعر واللغة العربية، يختارها مجالا للدراسة، ثم يحوّل وجهته الى العمل في الفنادق، ينجح غسان دراسيا ثم ماديا ويكبر نفوذه وسلطته لكنه امام مرآته خاو الروح يشبه ذلك الجذع الاجوف الذي سكنته الرياح وصنعت داخله سيمفونية مزعجة.
يعاني "غسان الجوادي" من فصام مرضي يصنع لنفسه خيالات غير واقعية بسبب صدمة نفسية حدثت له ومنذ الجملة الاولى تجعل الكاتبة القارئ في حالة حيرة وصراع " "عزيزي عزرائيل تنحّ براسك عنّي قليلا لأرى اخر هذا النفق؟" سيظن متامل النص ان الشخصية ربما تعاني من مرض عضوي؟ لكنها ستزيد من توتره حدّ الجملة الاخيرة من النص " "احاول فتح عينيّ لاطرد الصورة المرعبة من ذهني، وحينها فقط اكتشف انهما كانتا منذ البدء مفتوحتين" وتجعل غنيم قارئها طيلة 360 مشتتا بدوره يبحث عن منفذ للنجاة.
تصنع عوالم روائية مميزة، لها قدرة على عجن المعطيات الحقيقية مع متطلبات السرد والرواية من خيال لتشكيل نص جميل يقنع القارئ ويدفعه لالتهام النص بشراهة، اميرة غنيم تنتبه في ملفها الاصفر الى الامراض النفسية المنتشرة في المجتمع التونسي ومدى تأثيرها على الواقع السياسي والاجتماعي لتونس ما بعد 2011 وتجعل الشخصية المحورية هي الساردة لهذه الاحداث والمعطيات انطلاقا من حياتها الخاصة، فغسان الجوادي سيكون الراوي ايضا، لن يكون قطعة "بازل" تحركها الكاتبة، لأنه سيكون بدوره محركا للأحداث وصانها لها من خلال السرد.

الكتابة ومخاض التوثيق والنقد

تنطلق الكاتبة من احداث واقعية عاشتها تونس اثناء الثورة على غرار لجان حماية الثورة وتطوع الشباب لحماية الاحياء، والاحداث الدموية التي عاشتها القصرين بسبب الارهاب "الم الفاجعة الجديدة مازال مغروسا في الحلوق مرّا كاويا بعد استفاقة البلاد في سويعات الصباح الاولى على طعنة غدر اضافية استقرت في حنجرة شهيد امني جديد ذبح بمدية الارهاب".
من تنقلات شخصيتها الاساسية تبحر غنيم في الواقع التونسي، تعيد سرد العديد من الاحداث التي عاشها هذا البلد اثناء الثورة وبعيدها، من خلال نصها نبّهت الى خطورة الارهاب وفلوله واشارت الى الوضعية الامنية غير المريحة للمواطن بعيد الثورة ""طلب العون في ادب لا يخو من خشونة الوراق الشخصية واوراق السيارة...كنت اتفهم الضرورة الداعية الى مثل هذه الحملات الصارمة فالسلاح المهرّب من ليبيا منتشر في البلاد رغم اليقظة على الحدود" والكتابة سلاح اميرة غنيم لتنتصر لوطنها فرغم خيباته سيزهر كما النرجس.

بأسلوبها الشاعري تنتصر لمن حموا البلاد كما تنبّه لخطورة الانتهازيين ممن كانوا اصحاب سلطة مع النظام السابق ثمّ لبسوا برنس الثورة واليوم هم اصحاب نفوذ وسطوة اكبر فالكتابة دفاع عن الذاكرة والرواية مساحة للتوثيق ايضا وللتذكير باحداث فارقة اثرت سلبا على الشباب التونسي وحطّمت تلك النظرة الحالمة بتحقيق اهداف الثورة وعوضتها بانكسار وخيبات امل متتالية .
ليصبح الشباب التونسي انعكاس لصورة غسان الجوادي فهو ايضا صنع الكثير من الاحلام لكنّ صورته في المرآة الذات عكس احلامه تماما، مشوهة وخاوية كما الروح المتعطشة للحب والرافضة للحقائق "لم اصدق الطبيب ايضا، ادعى وهو يقطب جبينه في هيئة من سيتمخض عن خبر مزلزل، ان حالتي العقلية خطيرة، وان استمراري في رفض العلاج سيعكر اكثر الفصام المتقدم الذي اعاني منه منذ سنين حاول ايهامي باني اعيش عالما لا وجود له الا في فضاءات ذهنية مرضية ومنقطعة عن الواقع".
"الملف الاصفر" نص روائي يمزج الواقعي والخيالي ينطلق من شخصية رئيسية ستكون صانعة الاحداث، هذه الشخصية انموذج عن المئات من الشباب الموجودين في واقعنا التونسي، ستختار الكاتبة اسلوب دائري كما دوزرة الحياة، من فضاء الانطلاق ستقفل احداث نصّها، تختار شخصيات تونسية الطبع والتصرفات، الاماكن ايضا يعرفها القارئ من القنطاوي الى الحمامات والبلفيدير لتصنع حميمية بين القارئ والمتن.
تطرح الكاتبة في ملفها الاصفر العديد من المواضيع الاجتماعية مثل الزواج والانجاب والهم الحبّ كعلاقة روحية تلازم القلب المريض حد الموت احيانا، تتساءل عن علاقة الانثى بجسدها؟ عبر شخصية المدلكة "سلوى" فهي تقدم جسدها مادة دسمة لغسان فقط وتمنعه عن غيرها لانها احبّت، وغسان بدوره يستبيح جسد سلوى ليعوّض حرمانه من جسد حبيبة القلب "هاجر" التي يشاركها الحب في الحلم فقط، فالحب والجسد ثنائيتين تتفنن الكاتبة في الوصل والفصل بينهما.
"الملف الاصفر" نص موجع ومرهق للقارئ والكاتب معا، نص سكبت داخله غنيم قدرتها على مراوغة اللغة ونحتت من الكلمات شخصيات منهكة نفسيا بسبب محيطها، وجعلت خيطا رفيعا بين بين وجع القارئ ووجع الشخصيات لتجبر غنيم قارئها على البوح بالمه النفسي والتطهّر من ادران الالم اثناء القراءة والمحظوظ من يملك القدرة على التصعيد بالكتابة.

 

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115