مسرحية "بلا عنوان" لمروى المناعي انتاج مركز الفنون الركحية اريانة الكتابة افضل علاج للاكتئاب اما المسرح فبلسم حقيقي لانقاظ الروح

تخيّل انك تخاف وجهك في المرآة؟ اي وجع ستشعر به لمجرد مرورك من امام مرآتك،

وجهك هويتك الثابتة تخافها، تتحاشى النظر اليها؟ هل تتخيل مدى وجعك حينها حين تهرب من حقيقتك الى الجدران؟ اي الم يجعل الجدار الابيض الاصم اقل حدة من ملامحك وتفاصيلك، عيناك، ابتسامتك المخفية خلف البكاء ونظراتك المنكسرة بفعل آلام نفسية كثيرة وندوب لا يمكن شفائها بسرعة؟.

هكذا ودون مقدمات تضع مروى المناعي الجمهور في حالة المخاض النفسي والمتاهة التي يعيشها المريض النفسي، ومن خلال التفاعل بين المتلقي والباث ستجدك مجبرا ان تعيش حالتين: اما صدق مع الذات وحينها ستجبر على الاعتراف بحقيقة وجعك والانخراط في مسار البكاء كأغلب الحضور، أو المكابرة والتعامل بحيادية وبمجرد وقوفك امم مرآتك ستسبقك دموعك لانها لا تعرف مسار التخفّي بعد مشاهدة مسرحية "بلا عنوان" اخراج مروى المناعي وتمثيل نادية بلحاج ولبنى مليكة عن مذكرات لسارة لجربي وصمم الموسيقى الاصلية رياض البدوي والاضاءة لجوزيف دودي ومدير تقني صبري العتروس والعمل من انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية اريانة.

السينوغرافيا محمل لفكّ شيفرات العمل

ظلام دامس، موسيقى هادئة تعم الفضاء، الكثير من الفوضى على الركح مع مساحة للأبيض تلك القيمة الضوئية المحايدة والمزعجة في الكثير من المرات فالأبيض محايد وقاتل في الوقت ذاته، الابيض لون يحيل الى مستشفيات ومصحات الامراض النفسية، الابيض قيمة ضوئية تمحى امامها كل الالوان وبالتالي تمحي تدريجيا ثقافة الحياة، لكنه قيمة تقاوم ليتجدد معها الم الشخصية وتندفع حكاياتها لتشكل فوضى تتماهى مع فوضى المكان، فالسينوغرافيا ستكون اوّل محمل لفك رموز المسرحية وقراءتها.
الابيض هو سيد المكان، كراس بيضاء، طاولة اشد بياضا وسرير ولحاف اكثر بياضا، هو بياض الثلج الناصع نقيض ما تعيشه الشخصية من هالات سوداء وقتامة في الروح، في العمل المكان امكنة، يتحول حسب مخيلة الشخصية ومدى تقبلها لواقعها ويتغير كلما تحركت قطع الديكور او الإضاءة، فلكل تفصيلة على الركح تاثيرها في سيرورة الحدث المسرحي وكلها تتحكم فيها ممثلة عرفت جيدا كيف تنجح في تقمص الشخصية ووجعها.
في لمسرحية الكثير من قصص التشوّه الروحي للانسان وهذا التشوّه يظهر للمتفرج منذ المعلقة وهي الدليل الاول للمسرحية، في المعلقة صورة لام وابنتها، كلتاهما وجهها ممحى بالابيض اما بقية الجسد فواضحة المعالم، تماما كما ستكون "سارة" جسد انثى تنقصه روح.
"بلا عنوان" هو اسم المسرحية، هي ايضا هوية الشخصية المحورية للعمل، فهي رغم وجود اسم ولقب ومهنة وبيت لكنها تشعر انها بلا عنوان، بلا اسم ولا هويسة، تشعر انها تائهة واضطراباتها النفسية تسبب لها مزيدا من الضياع، هي "سارة" فقط احرف لا تعنيها شيئا، لانّ دماغها يريد حماية نفسه من الوجع فمحى كل الالام مرة واحدة ما ادخل الشخصية في صراعات دائمة لتثبت انها "بلا عنوان".

في المسرحية يصنع الحدث شخصيتين اثنتين، الاولى محور الحدث وصانعته دوما "سارة" وجسدتها الممثلة نادية بلحاج، سارة محبة لعملها، معلمة تدرس اللغة الانقليزية للاطفال، تعشق التلوين والرسم، مقبلة على مهنتها فقط وتحمل في داخلها الكثير من الوجع، تعرضت لصدمة نفسية في طفولتها، حماها دماغه ومحى اثار الصدمة من الذاكرة، شخصية تعيش يوميا صراعا لاثبات انها بخير "انت بخير ينقصك فقط العزيمة" هي الجملة الاكثر ازعاجا لكل من يعيش حالة كآبة " انا قنبلة موقوتة تنظر لحظة الانفجار" وهي الجملة التي انهت حياة لشخصية.
"سارة" اسم الشخصية صانعة الحكاية، هي انموذج عن الالاف ممن يعيشون يوميا صراعا لتجاوز حالات الاكتئاب، فالانسان في العصر الراهن اصبح اكثر عرضة للامراض النفسية واولها التوتر، سارة شخصية نسائية حالمة، احلامها بسيطة (وشم، تربية كلب، السفر) لكن هذه الاحلام تص"بح جبلا من الخوف لمن يعاني من اثار نفسية، حتى التنفس والنوم تصبح مثل العذاب لانسان يعيش كوابيسه اليومية والاسباب عادة بسيطة لكننها تتراكم حتى تصبح صخرا من الوجع.
الموسيقى والاضاءة وحركة الممثلة وسائل تقنية لتفكيك العمل وقراءة شيفراته، وسائل تقنية عرفت المخرجة استعمالهم وتوظيفهم الجيد ليكون هناك تماه عجيب بين الباث والمتفرج وتجبر الاضاءة الخافتة والموسيقى المتغيرة حسب مزج الشخصية الجمهور ليبكون هو الاخر حلقة جديدة من الحكاية، فالجمهور داخل كل منهم "سارة" تريد النجاة بنفسها من الموت النفسي لكن "الممنوعات" كثيرة تعيقها عن ذلك.

الدلالات كثيرة والدال واحد: انصتوا للانسان لحظة الضعف واحترموه

تتعرى الشخصية من وجعها، تحاول البوح، توظف الممثلة كل وسائل الديكور لتعايش وجع الشخصية وتعيش المها حقيقة، تبكي بحرقة وصدق حدّ التناص المطلق بين سارة الشخصية ونادية الممثلة، اللحاف الابيض سيكون له اكثر من دلالة، فهو عنوان المخاض والولادة الاولى، تحته تتحرك الشخصية كما جنين يسارع للخروج الى الحياة، سيكون ايضا مساحة للهروب من قسوة الخارج، فالحاف والسرير دوما يكونان ملجئ الانسان المنهك من ضغط الحياة، كما سينتهي باللحاف ليكون "عزرائيل" الشخصية فعبره ستنتحر "سارة" وتترك خلفها رسائل انثى عانت الكثير بسبب الاكتئاب ووجدت الموت افضل سبل التحرر من الجسد المنهك والروح المتعبة.
يتغير الديكور من مكانه كلما شعرت الشخصية بالرغبة في البوح او التغيير، المرآة عنوان للحقيقة توجهه دوما إلى الحائط باستثناء مرآة وحيدة كتبت فوقها بعض الدروس وعليها تنعكس صورة الشخصية ومشاهديها، ابعاد المرآة هو محاولة للهرب من الحقيقة، فسارة تعرف جيدا مرضها وتعرف اسبابه لكنها تدّعي عدم المعرفة لتكسب مزيدا من الوقت في غرفتها الواسعة، لانها تهرب من وحدتها الى وحدة الغرفة، و"الوحدة" من اسباب كآبة الانسان كما تقول شخصية العمل وطبيبتها.يد من لمشاغل والهواجس الجماعية، على الركح تحضر روح الصغير اولاد اح
الشخصية الثانية التي توجه الشخصية الاولى هي الطبيبة، اقل حضورا لكن لها تأثيرها على الحدث والحكاية، الطبيبة النفسية، مرافقة المريضة والراغبة في شفائها، الممثلة لبنى مليكة بحضورها البهي على الركح، تحضر اولا بصوتها ثم بظلها في استعمال لتقنية خيال الظل ثم تحضر فعليا، تدرج الشخصية في الوصول الى المتلقي يتماهى بضبابية صورتها في ذهن مريضتها سارة، فسارة المصابة بذهان تعيش حالة من الضبابية، صور في الذهن متآكلة تتضح تدريجيا لتصبح حاضرة بقوتها تماما كالطبيبة.
"بلا عنوان" هو عنوان المسرحية والشخصية، فالمريضة تعيش حالة "ذهان" وطبيا هو "الشعور بالانفصال عن الواقع حيث يعاني المصاب من معتقدات خاطئة حول ما يجري، ورؤية أو سماع أشياء غير موجودة، نتيجة تأثير الذهان على طريقة تفكير الشخص ومعالجة عقله للمعلومات" وهو ما نقلته الممثلة على الركح انطلاقا من قصة حقيقية كتبت خلال 2015-2016 والنص الاصلي مذكرات لسارة الجربي التي اقامت لفترات متقطعة في مستشفيات سانت آن وهنري إي للإمراض النفسية بباريس، وفي يومياتها تساءلت سارة الجربي عن وجع الروح المتألمة.
نجت سارة الجربي الحقيقية وكتبت المها في مذكراتها التي التقطتها مسرحية محترفة فأعادت كتابتها لتكون نصا مسرحيا مشحون بطاقة الحب والنقد والوجع.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115