وصحتك النفسية امام عالم متوحش مع انتشار لفكرة التغوّل؟ الى اين المهرب من الخوف المتواصل ومظاهر التوحّش المنتشرة يوميا؟ باية طريقة تحافظ على توازنك امام حالات الخوف والتقتيل والحرب والدموية واللانسانية؟ واسئلة اخرى طرحها مؤيد غزواني في "رهاب العمل المسرحي الذي يسائل الراهن ويتساءل عن انسانية الانسان.
"رهاب" مسرحية من اخراج مؤيد غزواني وتمثيل مريم يطو وانس ورفلي وبوبكر غناي ووجدي حداد وغادة رياحي وجيهان دقي ولؤي بكري، صمم الموسيقى انيس تيساوي وفيديو لهاني عيادي وملابس ايمان صامت وتوظيب ركحي لمعز خميري والمسرحية من انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية جندوبة.
"رهاب" سؤال حقيقي عن ماهية القيم عبر السينوغرافيا
المسرح فعل انساني او لا يكون، الخشبة مساحة للتحرر من كل العقد والتعبير عن رفض كل انواع الظلم والعنف النفسي او الجسدي والركح مساحة كاملة لتحرر الممثل من كل قيوده ومعيقاته وهو يصنع من شخصياته شيفرات ورسائل يوجهها الى المتلقي لينقد عبرها الواقع بكل تجلياته، يعرّي قبح الانسان وبشاعته ويضع الأنا امام مرآة الحقيقة المخيفة.
يتغير العالم نحو الاسوء، تتجه انسانية الانسان نحو الحضيض وبات الخوف ميزة انسان اليوم، غلبت الرأسمالية كل القيم وحشرتها في مكان ضيق "كولها بوبكر، كولها بلحق، الناس البره تاكل في بعضها" كما ورد في نص المسرحية، على الركح الالوان الاسود والرمادي مع الاحمر اسياد المكان..
الوان ينعكس عليها الضوء خافتا فتبدو للمتفرج داكنة تبعث في النفس القلق والحيرة، مدرج عال، يطل على الركح، مع حمام وبضعة حبال غليظة ومتينة، لكل شخصية مكانها تربط نفسها دون الحاجة الى من يقيدها، جميعهم يعيشون في مكان منفي بعيد عن الاعين، مكان قاتم يكتم الانفاس وجميعهم يعاقبون على جريمة "الاختلاف"، جميع الشخصيات على الركح منفية بما في ذلك الحارس والمختصة الاجتماعية وصوت رجل يحرّكهم كما يحرك العرائسي عروسته ويسكنها الخوف والقوة والحب والرغبة في القتل ايضا..
بين الاضاءة والموسيقى وحركات الممثلين تناسق وتناص، الممثلون الذين يجسدون شخصيات المساجين يلبسون الترابي الفاتح كما لون الجسم تماما ومع الاضاءة يبدون عراة من اللباس والافكار والقيم ايضا، اما الحراس فيلبسون اللون الاحمر الفاقع كدماء كل من قتل في ذاك المكان، السينوغرافيا تجبر المتفرج على التفاعل مع العرض والتماهي مع اسئلته، تلك الاضطرابات على الركح تجعل من المتفرج قلقا ومتسائلا عن دوره في المنظومة الكونية، والوقوف للحظات امام مرآة الذات للسؤال "كم آذيت من شخص فقط لاختلافه عنّي؟" فالسينوغرافيا بكل عناصرها استعملت لتوجيه تركيز المتفرج الى ذاته وجلدها ومساءلتها قبل ان يسائل الممثلون المجموعة..
يعرّف الرهاب بانه " عُصاب المَخاوف أو الفوبيا هو اضطراب نفسي يعرف بأنه خوف متواصل من مواقف أو نشاطات معينة عند حدوثها أو مجرد التفكير فيها أو أجسام معينة أو أشخاص لمجرد رؤيتهم أو التفكير فيهم" وعلى الركح عانت كل الشخصيات من حالات رهاب، لكل شخصية حقيقتها الموجعة والم دفين تحاول دفنه في الذاكرة الباطنية، لكننها تقرر ان تتعرى من رهابها وتجبر الجمهور على ان يشاركها لحظات الخروج تدريجيا من شرنقة الخوف، مسرحية ترسخ بالذاكرة وتجعل المتفرج يجرب بأن يقف امام مرآة ذاتها ليسألها ويسائلها عن الرهاب الذي استوطنها..
الممثل حمّال رسائل نقدية وشيفرات فنية عدّة
يحاولون التغيير، يصنعون لانفسهم عالما مسرحيا مغايرا، يحاربون المنظومات الادارية والافكار الرجعية وينتصرون للانسان والحقوق في مفهومها المطلق فالمسرح سلاحهم والمسرح سبيلهم للحرية، و"رهاب" كان مشروع تخرج وسؤالا حقيقيا عن القيم في الوقت الراهن، ولد السؤال في ظرفية عصيبة يعيشها الكثير من المختلفين، في الدين والجنس والفكر، ولد المشروع لدى فنانين مسكونين بفكرة الحقوق الكلية والمنظومة القيمية الشاملة التي يتساوى داخلها جميع البشر، وبين واقع تنتشر فيه الجريمة والعنف وافكار واحلام تدعو للسلم والحقوق ولد "رهاب" مشروع مسرحي ثوري يضع الواقع على طاولة التشريح ويقدمه الى المهتمين بطرح السؤال انطلاقا من المسرح..
"رهاب" في المطلق دون تحديد هي وضعية حياتية عاشها مؤيد غزواني في الكثير من الحالات منها الهرلسة في المؤسسة الجامعية والهرسلة في الشارع فقط اختياره للجسد لغة للتعبير، شتات نفسي وقلق عانى منه بوبكر غناي ورفيقه لمجرد انهما يدافعان عن المختلف ومن هذا الرهاب الذي عاناه كل منهما ولد المشروع مسرحية تدكّ القيم الموجودة وترمي بمعاني الاختلاف والحقوق وتؤكد على قبح البشر وتغوّلهم في الزمن الراهن ومن خلال اجساد الممثلين وحركاتهم وقلة كلماتهم تكتب سيرة المختلفين.
"رهاب" مسرحية تنقل حكاية حقوق مغتصبة وافكار مجهضة، سيرة المختلفين ومعاناتهم في مجتمع يدعي الدفاع عن حقوق الانسان وقبول الاخرين، لكل شخصية حكايتها الخاصة الا ان جميعها تشترك في الخوف المفرط من الاخر، من وجيعة المراة المرفوضة من زوجها لبدانة جسمها الى المراة المرفوضة من العائلة والمجموعة لميولها الجنسية المختلفة عنهم الى الاخر الذي تعرض للاغتصاب فلفظته العائلة والمنظومة القيمية الجماعية، جميعهم مرفوضون وملفوظون ،كل منهم يحمل وجعه بصمة على القلب وصرخة تنتظر الوقت لتصعد عاليا علّها تخترق حالة الصمّ الكونية والمشتركة.
"رهاب" مسرحية تنقد القيم والاخلاق وتدعو الى مراجعتها، فالاخلاق الجماعية تختلف اليوم عنها في زمن سابق، وتدعو ضرورة الى طرح السؤال عن القيم الكونية والحقوق الانسانية بصفة عامة ومنها الحق في الحياة والاختلاف، في المسرحية تطرق الى النصوص القانونية غير المطبقة، سؤال عن العنف داخل السجون وفي الساحات، تعنيف اسري وزوجي، تعنيف نفسي يعيشه انسان اليوم ليقدم انموذج مشوّه سيأكل كل المحيطين تماما كالشخصية التي تقمصها الممثل بوبكر غناي التي ستتحول من انسان لطيف الى شبه حيوان ينقضّ على من حوله ينهش اللحم ويقتل دون جزع او ندم.