بكثير من الطرافة والاختلاف في طرح الفكرة. ولعلّ من سمات الفنان منصف ذويب تلك القدرة العجيبة على التموقع في منزلة وسطى ما بين الفنّ الذي يخاطب النخبة والفنّ الذي يتوّجه للجميع ولعامة الناس. من مشروع فنّي إلى آخر، يرفض منصف ذويب تسجيل الحضور لمجرد المرور بل يحرص على ترك بصمة خاصة تشهد على تفرد رؤيته وأفكاره ومساره...
انتهى المخرج منصف ذويب مؤخرا من تصوير فيلمه الروائي الطويل "برج الرومي" الذي يقترح سردية سينمائية لأدب السجون في تحرير لهذه الروايات أو المذكرات من حيز الورق لتصافح الجمهور العريض على شاشة السينما.
مذكرات من السجون إلى شاشة السينما
في اقتباس من أدب السجون عموما وفي عودة بالقراءة وبالتحليل على حوالي 12 كتابا عن التجربة السجنية من تأليف أعضاء من آفاق برسبكتيف وحركة العامل التونسي، قام منصف ذويب بكتابة وإخراج فيلمه الجديد "برج الرومي".
بعد سنوات من الغياب عن شاشة الفن السابع، يعود المخرج منصف ذويب بفيلمه الجديد "برج الرومي" بعد عملية بحث طويلة في أهم مؤلفات اليسار التونسي عن تجربتهم الذاتية داخل السجون التونسية على غرار «نظارات أمي» لعز الدين الحزقي «سارق الطماطم» لمحمد صادق المهني و«الحبس كذّاب والحيّ يروّح» لفتحي بن الحاج يحيى و«كريستال» لجلبار النّقاش... في تعريج على السياق العام في حقبة السبعينات، لا يغفل فيلم "برج الرومي" عن الإشارة إلى "الخميس الأسود" الذي شهد مواجهات دامية هزت البلاد التونسية يوم 26 يناير 1978 إثر الصدامات العنيفة بين الطبقة الشغيلة يقودها اتحاد الشغل ونظام الرئيس الحبيب بورقيبة.
ما بين التمسك بالمبدأ والتنكر له ... يقف الفيلم
عن الفكرة العامة لفيلم "برج الرومي" ومدى تأرجحه بين العام والخاص، الذاتي والموضوعي.. أكد المخرج منصف ذويب في تصريح لـ"المغرب" بالقول:" لا يرتكز هذا الفيلم الروائي على التناول التاريخي لهذه الفترة من تاريخ البلاد التونسية بل ينطلق منها كإطار فني لطرح الموضوع الرئيسي للفيلم وهو التمسك بالمبدأ أو التنكر للقناعات وفقا لتغير المعطيات وتبدل السياقات... إنّه طرح سينمائي لفكرة التناقض بين شخص يتمسك بالمبدأ إلى النهاية مهما كان الثمن وبين شخص آخر يتخلى التخلي عن المبدأ لأي سبب من الأسباب. يمكن القول إنّ فيلم "برج الرومي" يدور في فلك السؤال التالي: هل أنّ من التشبث بالمبادئ هو بالضرورة بطولة ؟ وهل أنّ التخلي عن المبدأ هو بالضرورة خيانة؟ "
ككل سينما منصف ذويب ، يبدو أنّ موضوع فيلم "برج الرومي" صالح لكل زمان ومكان وينسحب على مختلف الثقافات والمجتمعات. يتجاوز الفيلم مجرد التطرق إلى معاناة اليسار التونسي داخل السجون التونسية ليستوعب قلق الإنسان في المطلق في تصويب بوصلته نحو الوجهة الصحيحة في الخيارات وفي الحياة.
13 سجينا .. و13 حكاية
في سجن "جوڤار" من معتمدية الفحص (ولاية زغوان)، اختار منصف ذويب أن يصوّر كل أحداث فيلم "برج الرومي". وعن هذا الخيار الفنّي الصعب في اعتماد تقنية "الويكلو" في التصوير والتي تقتضي الاقتصار على فضاء واحد ومغلق، يوضح منصف ذويب فيقول :" هو فيلم عن السجن داخل السجن ومع السجناء... وقد اخترت طوعيا أن تكون حتى كاميرا التصوير سجينة بدورها داخل الفيلم حتى أصاب بعدوى شعور السجناء بالضيق وبالضيم فأكون صادقا في نقل أحاسيسهم وترجمة يومياتهم المتشابهة حد الملل القاتل."
يجسّد أدوار البطولة في فيلم "برج الرومي" 13 شخصية أو 13 سجينا انتقى أغلبهم المخرج المسرحي والسينمائي منصف ذويب من مجال المسرح، ومنهم : محمد شوقي بلخوجة وعزيز الجبالي وطلال أيوب وحسام الغريبي وجمال المداني ومروان العريان وإيهاب بويحي... ومن مفاجآت فيلم "برج الرومي" ظهور المخرج عبد الحميد بوشناق كممثل في دور سجين سياسي.
أبطال من الرجال ... وللمرأة التونسية بطولة أيضا
لئن كان أبطال فيلم "برج الرومي" هم شخصيات رجالية بامتياز، فإنّ المرأة تحضر في الفيلم بشكل أو بآخر في تقديم تحية خاصة من المخرج منصف ذويب للمرأة التونسية. تكرّم كاميرا منصف ذويب على طريقتها أمّ السجين السياسي التي تقضي العام تلو العام في رحلة الذهاب والإياب من السجن وإليه وهي تحمل «القفة» إلى السجين وفي قلبها حرقة وفي عينها دمعة وبين شفتيها دعاء ورجاء...
عن مصادر تمويل فيلم "برج الرومي" أكدّ منصف ذويب أنّ وزارة الشؤون الثقافية تبقى هي الداعم الأساسي للسينما في تونس مشيرا إلى أن فريق الفيلم بصدد البحث عن أطراف للتمويل التكميلي من أجل إتمام بقية عناصر الفيلم ليكون جاهزا للعرض بمناسبة أيام قرطاج السينمائية 2024.