خلافا لكل الدول العربية الأخرى». آنذاك، اندهشنا لاندهاشه. ذلك أن ما كان يعتبره أبو عمّار علامة نادرة للتحضّر، لم يكن يُمثّل لنا أكثر من حركة بديهيّة وطبيعيّة.
قبل اندلاع الثورة التونسية، كان السلوك السائد لدى المواطنين يتّسم بالحد الأدنى من النظام والتمدّن. وكان الاعتقاد السائد بأن ذلك هو نتيجة حملات التوعية والوعظ التي قامت بها الدولة منذ السنوات الأولى من الاستقلال، من تعليم حداثي وتثقيف مستمرّ، في المدارس وفي وسائل الإعلام والفضاءات الثقافية. لكن سنوات الثمانين كانت كارثية على التربية وعلى الثقافة بسبب ما أقدمت عليه حكومة مزالي من فتح الأبواب أمام قوى الشدّ إلى الوراء لتنشر ثقافة الرجعية والتزمّت. وحيث أن الهدم أسهل بكثير من البناء، انتشر الفكر السلفي والوهابي والرجعي كالنار في الهشيم. واكتشفنا بعد الثورة أن ما بقي من السلوك الحضاري قبلها لم يكن نتيجة الوعي بالواجبات بقدر ما كان خوفا من العقوبات، بدليل أن كثيرا من المواطنين ظهروا على حقيقتهم، بما حصلوا عليه من حريات، وأصبح تصرفهم التلقائي أبعد ما يكون عن التصرف المُتمدّن. وقامت غريزة العدوى بفعلها ليُصبح تصرف الشارع، وبتشجيع من السلطة الجديدة، يتّسم بالفوضى العارمة. وهو ما يدعونا إلى التمعّن في مكامن الخلل وفي السبل التي يجب توخّيها للقفز بشعبنا إلى مصاف الشعوب المتحضّرة التي تعيش القرن الحادي والعشرين.
من جهة أخرى، ومنذ الاستقلال، تعوّدنا على أن تكون السلطة بيد النخبة السياسية والفكرية، رغم كل ما كان يشوب عملها من نقائص ومن فشل في العديد من المجالات. وما أن تحوّلت، بفعل الانتخابات، إلى أيادي من يُمثّل إلى حدّ كبير العقلية السائدة في مجتمعنا حتى أضحت هذه السلطة يتحكّم فيها العديد من البسطاء، فكريا وثقافيّا. ويأتي ذلك دون شك نتيجة للعبة الديمقراطية التي طالما ناضل من أجلها التقدّميّون. إلا أنها أظهرت حدود وعي المجتمع وثقافته، وأفرزت بالتالي سلطة أبعد ما يكون عن النخبة. والنخبة التي قامت في العشريات الأولى من الاستقلال بدور القاطرة، وهي التي يُفترض أن تكون كذلك، أصبحت مجرورة تلهث وراء قاطرة الشعبوية، بل هي أصبحت منبوذة بفعل عقدة النقص السائدة لدى الحكّام الجدد.
فالسلوك المنافي للحضارة من جهة، والرغبة السائدة في وضع كل الفرامل الممكنة أمام التقدّم الفكري والحضاري، مردّهما عموما إما مرجعيات البعض الدينية أو الاجتماعية، وإما سوء فهم وتقدير للحريات وللواجبات.
خلفيات رجعية
سلوك التونسي طغت عليه في السنوات الأخيرة خلفيات ومرجعيات بالية خلناها ذهبت دون رجعة. وها أنها تعود بفعل تشجيع الحُكام الجدد الذين مسحوا عنها الغبار وكسوها طابعا دينيّا وصبغة قدسيّة. فهذا لا ينطق بجملتين إلا وفيهما عبارة «إن شاء الله»، أحيانا بشكل كاريكاتوري، مثل ذلك الذي يقول «ابني نجح في الباكالوريا إن شاء الله» خوفا من أن تُسحب من ابنه الشهادة إن هو لم ينطق بتلك العبارة. هذا السلوك يبدو أن مرجعيّته دينية، احتكاما للآية «وما تشاؤون إلا أن يشاء الله». وهي من الآيات التي تمّ تفسيرها بشكل كاريكاتوري مُضحك، ممّا جعل التعامل بين الناس عسيرا ومُعقّدا. وذاك لا ينطق بكلمة «يهودي» إلا ويُردفها بكلمة «حاشاك»، والآخر لا يبدأ كلامه إلّا بعبارة «باسم الله الرحمان الرحيم» وكأنه سينطق بكلام الله، في حين أنه سيتكلّم عن البصل أو عن فريقه المُفضّل، والأمثلة على ذلك عديدة...
فالمرجعيات التي تبدو في ظاهرها دينية لا تعدو أن تكون في الأصل اجتماعية ولا علاقة لها بالدين، إذ هي تُترجم تقاليد لها غطاء ديني أصبحت راسخة في الأذهان كأفكار مُسبقة يصعب مراجعتها بالخصوص لدى من يرفض إعمال العقل في السلوك اليومي، إذ أن الاعتقاد السائد هو أن ذلك السلوك إنما هو «فرض ديني». وما أكثر «الفروض الدينية» الوهميّة مثل «عصيدة الزقوقو»، و«كبش العيد»، ولباس القميص الأفغاني، واللحية، والحجاب، بل والنقاب، والقائمة طويلة.
الخطأ هنا هو فهم سطحي ومُخطئ للدين في المعاملات بين الناس. وعلى الدولة وكل الوسائل التثقيفية من برامج تربوية ومؤسسات ثقافية وإعلامية التذكير بجدّية وإلحاح، طيلة سنوات إن لزم الأمر، بأن الدين مسألة مُقدّسة تهمّ بالخصوص علاقة المخلوق بالخالق بما فيها من تعبّد وخشوع، وأن العلاقة بين المواطنين، تحكمها القوانين والمُثل الكونية العليا، بما يتماشى مع مبادئ الجمهورية ودولة القانون والمؤسسات، كسائر الشعوب العريقة في الديمقراطية وفي التحضّر. وهنا وجب التأكيد على أن المبادئ الكونية لحقوق الإنسان لا دين لها، خلافا لما يدّعيه المُتطرفون بأنها مبادئ الكُفّار. وليعلم هؤلاء أن من بين بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما هو مُستوحى من الإسلام مثل مبدأ حرية الضمير والمعتقد التي أتى بها القرآن في «لا إكراه في الدين» أو في «لكم دينكم ولي دين». لكنهم يأخذون من الغرب تقدمهم في العلوم الصحيحة باستعمال الطائرة والهاتف الذكي، ويرفضون تقدّمهم في العلوم الإنسانية والاجتماعية في أنماط التفكير ووسائل التحليل، خوفا من أن تجرّهم أدوات البحث الحديثة إلى مراجعة المُسلّمات البالية والخرافات المُقدّسة.
وما المحاولات اليائسة لإضفاء القدسية على الأفكار السياسية الرجعية أو النوايا الخبيثة، مثل تعويض مؤسسة البرلمان بـ«مجلس الشورى» والسعي إلى السطو على خزينة الدولة بتعويضها بـ«صناديق الزكاة»، وربّما غدا بـ«بيت مال المسلمين»، إلا محاولات ديماغوجية للتمكّن من مفاصل الدولة بغطاء ديني.
التحضّر سلوك
وبخصوص التحضّر، فإن من بين ما أفرزته الثورة نجد تلك «الحرية» التي أصبح التونسيون ينعمون بها في شتى المجالات. إلا أن مفهوم الحرية يبدو أنه غامض في الأذهان ومرادف لدى العديد للفوضى. وكأن الحرية تعني أن الفرد أصبح من حقّه قول ما يشاء وفعل ما يشاء بدون حدود، وبدون اعتبار حرية الغير وحقه. فتسمع السب والشتم وهتك الأعراض في الشارع وحتى في وسائل الإعلام، وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي، على أن ذلك يدخل في باب حرية التعبير. وترى سيارة فخمة يُخيّل إليك أن لصاحبها الحد الأدنى من التعلّم (وقد يكون كذلك في مجال ما) ويسوقها شخص دون حزام الأمان منشغل بهاتفه الجوّال وهو يرمي من نافذة السيارة بعلبة سجائره الفارغة وبمنديله المُستعمل، سالكا طريقا ممنوعا أو مُتجاوزا الضوء الأحمر أو علامة «قف». وإن أشار له أحد بتجاوزاته أشبعه سبّا لأنه يعتبر أن ما أتاه ليس سوى تعبيرا عن «حرّيته». صاحب تلك السيارة، أو كل من شابهه، هو ممّن لا يعرفون بأن حقوقهم وحريتهم محدودة بحقوق الآخر وبحرياته، ويعتبرون أن الملك العام يُمكن التصرّف معه بعقلية «ملك البيليك»، أي ملك الباي أو ملك العائلة المالكة، وهو بالتالي لا يستحق العناية به، والحال أن الشارع بما فيه هو ملك الجميع، وملك ذلك السائق بالذات كغيره. كما أن ذلك السائق، وأقصد طبعا كل الذين يُمثّلهم أو يتصرفون مثله، لا يدفع الضرائب لأنّها في نظره أموال ستُدفع للحاكم وليس للمجموعة، وهو في ذات الوقت يُطالب ببناء الطرقات، وبالمدرسة العمومية المجانية، وبالمستشفيات، الخ...
ومن هنا تأتي قلّة الوعي بمفهوم المواطنة وباحترام الدولة. صحيح أن حكّام تونس بعد الثورة لم يُعيروا أي اهتمام لهيبة الدولة، إن لم أقل بأنهم قاموا بكل ما في وسعهم للقضاء عليها. لكنني أهتمّ هنا بسلوك المواطن. فإذا أخلّت السلطة بواجبها في هذا المجال، فذلك لا يعني أن المواطن عليه أن يزيد الطين بلّة. وكما قلت في بداية كلامي، كانت «هيبة الدولة» في سنوات الاستقلال الأولى أمرا مُقدّسا لدى القائمين على البلاد، من ذلك أنه كان على كل موظف أن يكون في أوقات عمله لابسا ربطة عنق، وحالقا ذقنه، وماسحا حذاءه.. .باعتباره مُمثّلا للدولة، وذلك يُطبق على كل من يعمل في الوظيفة العمومية، من الوزير إلى البوّاب. وها نحن نرى بعد الثورة موظفين سامين في الوزارات يحلقون ذقونهم مرّة في الأسبوع مُعوّضين الحذاء بـ«الشلاكة»، ومُتخليين عن ربطة العنق إلى الأبد، وقد أعطى المثل في ذلك أول رئيس للجمهورية بعد الثورة.
كل حق وراءه واجب
نأتي إلى العلاقة بين المواطنين. فبالمفهوم الخاطئ للحرية، واعتقادا من العديد بأن من بين معانيها إطلاق العنان للأفكار العتيقة المكبوتة التي كان يُفترض أن الزمان قد تجاوزها، نجد سلوكا منافيا للعصر وللقانون وللأخلاق وللتحضّر يعود إلى السطح. وإذا بنا نشاهد ما لم يكن يخطر ببالنا أنه موجود في بلادنا.
مظاهر العنصرية، مثلا، أصبحت مُنتشرة بشكل مُخيف. فعلاوة عن عودة النعرات الجهوية بشكل مُفزع، نسمع تارة بسفير دولة افريقية يحتج على معاملة التونسيين الدونية لجالية بلاده في تونس. وطورا نسمع بموظف عمومي، يُفترض أن يكون ممثلا للدولة، يُسيء إلى مواطن تونسي أبا عن جد، لأن ديانته غير الإسلام، أو لأن اسمه ليس من أصل عربي. علاوة عن منع سيدة محترمة الدخول إلى مقر إدارة عمومية لأن لباسها لا يروق إلى البوّاب بحجّة أنه لا يتوافق مع الزي الأفغاني الذي يرى، هو شخصيّا، أنه يجب أن يكون زي كل التونسيات.
ولعلّ أهم مظاهر العنصرية الفكر الذكوري الذي نكتشف اليوم مدى تفشّيه لدى التونسيين، وهو ما يُترجَم يوميّا بالعنف المُستشري ضد المرأة، وبالاغتصاب المتفاقم للقاصرات وحتى للعجائز. كل ذلك من أجل اعتقاد العديد من المواطنين بأن الرجال يمتازون على النساء، ومن أجل عدم استيعابهم لمبدأ المساواة الحقيقية والفعلية في كل مجالات الحياة.
والفكر الذكوري لا يُعالَج بالقوانين الرادعة لكل من يعتدي على المرأة، ماديّا أو معنويّا، فحسب، وإنما أيضا بالتربية على مبدأ المساواة الفعلية منذ الصغر، في العائلة وفي المدرسة وفي الشارع، وفي كافة المرافق العمومية. وفي هذا السياق لا بدّ من التأكيد على الاختلاط منذ الصغر وعلى أهميّة التربية الجنسية، من قبل الوالدين وفي المدرسة، والكف عاجلا عن اعتبارها من المُحرّمات الممنوعات. وبالاختلاط وبالتربية الجنسية منذ الصغر، نقضي على أهمّ أسباب العنف ضد المرأة والتسلّط على حقوقها حتى يُصبح الرجل يُعاملها على قدم المساواة عن قناعة راسخة. وفي هذا المضمار، لا بدّ من التصدّي الحازم لدعوات التفرقة بين الإناث والذكور في المدارس والمستشفيات وفي وسائل النقل. فالتفرقة بين الجنسين لا تزيد للجانبين إلّا الكبت، وبالتالي العنف.
خلاصة القول هو أن ثورة ثقافية على كل هذه الأوضاع أصبحت ضرورية وعاجلة. ولتحقيقها لا بدّ من تجنيد وسائل الدولة وإيجاد الآليّات الضرورية للتحسيس بوجوب خدمة الوطن قبل خدمة الذات وبالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، وذلك بترسيخ قيم التفتح والمساواة وحق الاختلاف لدى الناشئة في المدارس وفي مختلف الفضاءات الخاصّة والعموميّة، والحثّ على انفتاح الشباب على الفنون مثل الموسيقى والمسرح... وكذلك تجنيد وسائل الإعلام الوطنية بتخصيص مساحات توعوية بواسطة الومضات والسكاتشات والمسرحيات الإذاعية والتلفزية.