هل نحن فعلا تقدميون؟

الكلمات، في السياسة، كثيرا ما تكون سلاح معارك

وهي، حسب توصيف جون بول سارتر "مسدسات محشوة بالرصاص" ، يُواجه بها الخصوم ليس دائما بغايةالتحاور او الاقناع بلللتخويف واضعاف الحجة أو الوصم،ومن اجل ذلك تشحن الكلمات بمعاني ثقيلة قد لاتتحملها او تخرج عن سياقها الاصلي، ليتحوّل الخطاب من أداة تفاعل الى نوع من الصدّ، واحيانا محاولةللتعالي والتميّز وتتحول السياسة من ديناميكية براغماتية تواكب تطوّر الواقع وتسعى الى التفاعل معه والارتقاء به حسب مقتضياته ومتطلباته الى وسيلة فيالبحث حولناعن ولاءات ايديولوجية "شبه عصبية" (حسب تعبير احد الالسنيين) وحين يصدمنا الواقع بالتباسه وصعوباته، لا نواجهه ، بل نلتفت الى تاريخ نعتبره مقدسا لنغرف منه عبارات وشعارات طبعتنا وحركت سواكن عواطفنا الجيّاشة،ولازلنا نعتقد ، واهمين، انها بضاعة قابلة للتسويق...
لكن المشكل اننا ، بحكم اغترابنا عن مجتمع لم نعد نفهم اليات تفكيره ولا نمتلك اجابات لقضاياه الملحة ولا حتى ندرك كنه اللغة التي يجب ان نتوجه بها اليه ، فاننا نغالي في تقدير قيمة خطابنا تجاهه او مدى قابليتهلنا، فيكون التأثير سلبيا ، واحيانا النتائج كارثية ، والمفارقة انه بقدر اغترابنا السياسي والايديولوجي، بقدر ما نتمسك بخطابات ممجوجة ومواقف مثيرة للسخرية وعبارات مبهمة... خذ مثلا التقسيم "تقدمي" و"رجعي" ، فالتعريف المتداول هو ان الأول هو من يؤمن بالتغيير السياسي و الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، عادة نحو الأفضل ، اما الثاني فهو تقليدي ، يريد المحافظة على الواقع ويرفض التقدم والتطوّر، فبالإضافة الى انهما تحيلان الى صراع سياسي قديم قدم الأيديولوجيا ، فان المفهومين فقدا معناهما امام التجارب التاريخية المريرة التي عرفتها المنطقة العربية والعالم، ولكننا لم نجذّر خطابا سياسيا يعيد التفكير في محتويهما .
الإرث الأيديولوجي:
كبر جيل الستينيات والسبعينيات وحتىالثمانينيات من القرن الماضي في رحاب الدولة الوطنية ، برعايتها الاجتماعية وقمعها السياسي، وكان المثقفون والطلبة متأثرين بالحلم الايديولوجيحتى النخاع ، وكان مفهوم الحرية مقتصرا على ما يسمّى "تحررا نهائيا" من بقايا الاستعمار و معاداة الامبريالية الامريكية والصهيونية والرجعية والايمان بتحرر فلسطين من "النهر الى البحر." ولم تكن الأيديولوجيات القومية ، ببعديها الناصري والبعثي و كذلك الماركسية ، بتلويناتها المختلفة، تطرح كثيرا مسألة الحريات السياسية ولا الديمقراطية ولا التداول السلمي على السلطة، بل كانت تحلم بدولة ترسي فيها حلمها الايديولوجي ، بكافة ملامحه، احيانا دون نقصان...
الدول العربية كانت بالنسبة الينا مقسمة عموديا، اما تقدمية، تؤمن بتطلعاتنا "الوطنية" مهما كان قمعها و فسادها السياسي ، او رجعية ، تقبل بالتعامل مع الغرب ، وتفاوض في كل قضايانا المقدسة وتقبل بالتنازلات ، وحتى اليسار الماركسي ، الذي عانى من القمع الناصري والبعثي في مختلف البلدان العربية ، فان اغلبه ، كان يعتقد في تقدمية هذه الأنظمة ، مقارنة بالمحور المحافظ ، وفي بعض الاحيان ينتقد عسفها واستبدادها باحتشام ، ان وجد مجالا لذلك ، لكن غالبا لا يشكك في وطنيتها واخلاصها للقضايا العربية.
والى حد الان ، لم نر في تونس– على سبيل المثال- اية مراجعات جريئة ولم تُطرح اسئلة حول فشل الدولة القومية في تحقيق كل شعاراتها التقدمية ؟ في الوحدة والاستقرار السياسي والاشتراكية والتقدم العلمي والامن القومي ؟أو لماذا يرفض اولئك الذي يتبنون "الفكر العلمي" القيام بمراجعات على ضوء ما حدث في العالم من هزات اطاحت بامبراطوريات قوية ودول متقدمة ؟ ربما يكون المشكل الاساسي في التلذذ بالحلم مادام الواقع اشد قسوة وتغييره يتطلب أكثر من مجرد "الافكار التقدمية" وتقديس النصوص وترديد الشعارات.
في كتاب "رومنطقيو المشرق العربي" يصف الكاتب والصحفي اللبناني ، حازم صاغية ، امراض الرومانطقية العربية بتلويناتها الايديولوجية المختلفة ، القومية والماركسية والاسلامية ، بانها تتبنى ذاك الحلم الرومانسي الذي يفضل الوهم على الحقيقة والعاطفة على العقل والوحدة على التعدد والانغلاق على الانفتاح ، وان مثل هذا الفكر ، مهما حسنت نواياه وتعالت شعارته، فانه يؤدي حتما الى الاستبداد والقهر والتقوقع ، وينصح العقل السياسي العربي ، ان اراد ان ينهض وتكون له مكانة في عالم متغيّر ان يتماهى "مع الواقع ومع العالم، و ان يربط بين تغيّرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدّما وعدالة بالإمكانات والأدوات التي يوفرها الواقع والعالم”.
في غياب ذلك تتحول "القوى التقدمية "الى عامل اعاقة للتطور وقوة جذب الى الوراء واوتاد مثبتةرافضة للحرية والديمقراطية والتطوّر ، مهما ادعت غير ذلك ومهما تمسكت بما تحمله من احلام ومبادئ ، فأي فكر سياسي تقدمي يرفض سيادة الشعب وفصل السلطات واستقلال القضاء والمساواة امام القانون والتداول السلمي على السلطة؟ وفي تونس ، أيضا، وصل "الفكر السياسي التقدمي" الى طريق مسدود واضحى عاجزا عن اية مبادرة ، فلا هو قادر على تقديم تفسيرات مقنعة لمساندة اغلب اجنحته لإجراءات 25 جويلية 2021، ولا هو قدم نقدا ذاتيا شجاعا ، ليساهم في بناء مرحلة جديدة معتبرا من أخطاء الماضي ولا هو أيضا تخلّى عن العقلية الاقصائية التي طبعت تاريخه حتى يستعيد زمام الأمور ويرجح الكفة نحو مبادرة سياسية جامعة ، ليثبت ، مرة أخرى انه ظاهرة صوتية متخمة بالشعارات ، لا يمكنها ان تعيش وتترعرع الا في مناخ شعبوي ، تتماهى مع سرديته واضغاث أحلامه.

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115