تنعقد اليوم الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد. ولاول مرة منذ مسار الانتقال الديمقراطي: نذهب اليها بدون اي وضوح رؤية في توزع تركيبة الحكم خاصة بين رئاستي الحكومة والمجلس التشريعي، بعكس ما تم في جلسة المجلس التاسيسي في 2011 و جلسة مجلس نواب الشعب في 2014. مسار المشاوات والمفاوضات التي قامت بها حركة النهضة منذ المرحلة التي سماها عدد من قيادييها «تحسسية» الى المرحلة الراهنة اي مرحلة بدء كشف الاوراق في اللحظات الاخيرة لم تكن موفقة بكل المقاييس. اذ ان ديمومة الغموض الى اللحظات الاخيرة لا يعكس دهاء نهضويا بل ارتباكا في القيادة والتصور ربما بشكل غير مسبوق منذ أن أصبحت النهضة قاعلا اساسيا في التاسيس الديمقراطي. ومما لاشك فيه ان من يتحمل وزر النجاح او الفشل في مسار ترسيخ الديمقراطية من يتحمل مسؤولية قيادة المفاوضات.
كان الجميع ينظر الى انتخابات البلديات في 2018 وانتخابات 2019 كخطوة نهائية للترسخ النهائي للمسار الديمقراطي امام التهديدات الكبرى الخارجية والداخلية لكن نتائجها كانت تعكس هشاشة «السيستام» الديمقراطي الناشئ اصلا، خاصة مع اندحار القوى السياسية المنظمة وصعود قوى غير منظمة او زبونية. واكد مسار تشكيل الحكومة ان التهديد الاكبر هو القصور لدى الحزب الاول اي حركة النهضة في الرؤية وتحديد موازين القوى وتمييز المرحلة الراهنة. سنسعى للمحاججة على ذلك في نقطتين، منهجية ادارة المفاوضات، ومركزية رئيس الحركة في قيادة المفاوضات ولكن ايضا مبتغاها.
كيف تسببت حركة النهضة في عرقلة دورها القيادي:
في الايام الاخيرة التي سبقت انتخابات 6 اكتوبر التشريعية، وفي خضم هيمنة «موجة قيس سعيد»، استطاعت حركة النهضة التدارك والانتقال تدريجيا من الثانية الى الاولى في نوايا التصويت لتجسم تفوقها هذا يوم الاقتراع على حساب «قلب تونس». لم يكن التدارك كافيا لاسترجاع قاعدتها الانتخابية سنة 2014 اذ استمرت في التراجع، وكان امرا غير مسبوق ان الحزب الاول في مرحلة البناء الديمقراطي يتحصل على نسبة اصوات اقل من 20 ٪ على عكس ما حدث في 2011 و2014. لكن في كل الحالات كانت الحزب الاول أصبح من مسؤوليتها الدستورية قيادة مفاوضات مرحلة ما بعد الانتخابات.
بدأت «المفاوضات» مباشرة ليلة الانتخابات بتموقع شركاء محتملين في المعارضة خاصة التيار الديمقراطي وحركة الشعب. من البديهي ان النهضة تحتاج إلى التيار وإلى حركة الشعب ليس لوزنهما البرلماني الاستثنائي، فهما معا لا يتفوقان مثلا على وزن الحزب الثاني «قلب تونس»، ولكن لانهما يشبهان تقريبا «مطهرة» حزب استغرق في ادران «التوافق» مع منظومة اتسمت بشبهات الفساد. الهبة القاعدية النهضوية وتخومها حددت نسقا عاما في اجواء الانتخابات، مثل «انقلابا ابيض» ضد «خط التوافق».
تحولت النهضة في الصورة وعادت الى عباءة «الحزب الثوري»، في سياق مزايدات داخلية حول مسؤولية خسارة الناخبين والتراجع وتحميل المسؤولية لرئيس الحركة اساسا على «نهج التوافق»، والابتعاد عن الثورة. وضمن هذا الاشتغال الداخلي على المزايدات والتصعيد المتبادل بين اجنحة النهضة، «خط الشيخ» وما تبقى من «التيار الاصلاحي»، اصبحت العقدة المتفق عليها هي ترؤس النهضة للحكومة مع استعداد على الاقل خمسة قياديين من الشقين للتموقع في القصبة.
لكن النهضة استعادت في ذهنا القيادي والقاعدي على السواء ايضا لحظة 2011 ووهم القدرة على تكرار توازنات الترويكا، برئيس حكومة نهضوي وحلفاء غير مجربين تنجح في احداث تنافس بينهم وتمسك هي العصا من الوسط. صعود «اتئلاف الكرامة» كان عاملا مساعدا لاستعادة الحلم القديم، حيث مثل الجناح المفضل الذي كانت ترعاه وترتاح اليه حركة النهضة داخل حزب المؤتمر، الجناح المتعاطف اساسا والمائل بشكل اساسي للاسلام السياسي، والذي يمكن ان يقول ما لا يمكن تقوله في مضمار الخطاب الثوري، وحتى ضرب خصومها. لكن كانت محاولات استعادة لحظة الترويكا وهما لسبب بسيط لانه (اولا) لا يسمح وزن النهضة الان بمسك اغلب المفاتيح (ثانيا) لم يعد منسوب الثقة فيها من الشركاء المحتملين بذات الدرجة. جرت مياه كثيرة، وهو الامر الذي اصرت قيادة النهضة في الاسابيع الاخيرة على إنكاره.
بيد ان التيار والشعب كان متهيئان للتفاوض وقدم كل منهما تصورا واضحا. يجب هنا دحض كل المزاعم لأن كليهما رفض اساسا اي تحالف. ينطبق ذلك بشكل خاص على التيار والذي رغم انه وقع وفق الكثيرين في خطإ تواصلي بتبني خطابا علنيا يوحي بـ«المحاصصة»، الا انه ذهب مبكرا الى قلب الموضوع اي تقاسم مفاصل الحكم، وعدم تكرار ماساة التحالف القديم للترويكا حين تم حشر الاحزاب الاصغر في زاوية وزارات «فنية» يتم محاصرتها عبر لجان في القصبة.
المشكل الحقيقي الذي حصل ان الاعتمال الداخلي استغرق النهضة تماما، وجعلها تقريبا معزولة عن الزمن والسياق والاهم غير قادرة على طرح عرض جدي على طرف مثل التيار مثلا. اذ رغم توغله في قلب المفاوضات منذ البداية لم ترد النهضة لا في اللقاءات غير الرسمية او الرسمية باي عرض جدي ومباشر وواضح، وحتى اللحظات الاخيرة يتم طلب التصويت لرئيس الحركة في البرلمان. هذه معطيات وليست تحاليل. لم تقدم النهضة اي عرض جدي لا حول قائمة قصيرة من الاسماء وهي تعلم جيدا ان الغنوشي لن يكون رئيس حكومة ولا الوزارات المعنية بها او التي لا تفضل التخلي عنها. كان مسارا تفاوضيا «توحديا»، عاش فيه العقل القيادي النهضوي اساسا ضمن برجه العاجي.
بمعنى اخر لم يعرقل قيادة النهضة للمرحلة التفاوضية «تصلب» التيار والشعب، بل اساسا وضعها حساباتها الداخلية واستعادة حلو الترويكا كاطار رئيسي، لكني أضيف الى ذلك أيضا الى التموقع القادم داخل وخارج الحركة لرئيسها، التجاذب حول مصيره السياسي وايضا تصوره العام لما يجب ان تفعله النهضة والاسلام السياسي في السياق الاقليمي.
تقاعد (او عدم تقاعد) شيخ الحركة بوصفه قضية رئيسية
كانت من اكثر تعليقات قياديي النهضة على مالات الشورى الاخير التدوينة المؤلمة رمزيا لعبد الحميد الجلاصي الذي يتحدث فيها عن «الموت في الوقت المناسب» للرئيس قائد السبسي. التلميح كان واضحا لرئيس الحركة. بمعنى اخر يلوم الجلاصي الغنوشي انه لم يعرف كيف يتقاعد في الوقت المناسب. الحقيقة ان راشد الغنوشي قام بكل شيء لترتيب المرحلة الجديدة لكن السياق السياسي اتى برياح لم تكن منتظرة.
يستطيع رئيس الحركة نظريا وحسابيا تفعيل اتفاق 7 أوت - الذي اشرت اليه في مقال سابق - والذي مثل اتفاقا مبدئيا بين شيخ الحركة ونبيل القروي للتعاون بعد الانتخابات، وطلب حينها الشيخ رئاسة البرلمان في حين اشترط القروي التصويت له مقابل التصويت لرئيس حكومة «تكنوقراط» (المقصود حينها شخص يمثل نقطة التقاء بينهما اي فاضل عبد الكافي) يختار حكومة يشغلها اساسا مستقلون قريبون منه ومن ثمة من القروي. الاتفاق اصبح caduc بالدخول الى الامواج العاصفة للحملتين الانتخابتين والسقوط السياسي المدوي لنبيل القروي. لكن ايضا لا السياق الاقتصادي والاجتماعي ولا السياق الاقليمي (وهنا نصحت اطراف دولية رئيس الحركة بان الوضع غير مناسب لترؤسه الحكم) جعلته يتراجع عن رغبته في التموقع على راس البر لمان. ومن ثمة كان تحوزه على ترشيح «ترؤس الحكومة» مجرد مرحلة لذلك وايضا لمنع اي مرشحين اخرين من قيادات النهضة ومن ثمة انفلات الصراع الداخلي.
الحقيقة ان لا شيء تغير اذ ان القضية الاساسية منذ الانتخابات الداخلية في النهضة وبعدها وحتى الان ما يشغل العقل النهضوي رئيسيا، وهنا اقصد مستواه القيادي، هو موضوع وراثة الشيخ في مؤتمر 2020. اذ ان الشيخ لا يبدي اي مؤشرات على رغبته في التقاعد ويلمح باشكال مختلفة الى البقاء على رأسها بعكس ما يتضمنه النظام الداخلي (عبر تحوير النظام الداخلي او تاجيل المؤتمر) فانه يريد ان يضمن وسائل ترجيح كفته في اي صراع داخلي، ومن الواضح ان صعود كتلة موالية له بشكل ساحق وان يوجد على رأس البرلمان كلاهما سيعني ان اي محاولة للتهديد بالانشقاق من قبل الطرف الاخر (اي «التيار الاصلاحي») عملية انتحار. اذ سيصبح وجود الحزب متربطا اساسا بوجوده في البرلمان ومن ثمة عصب المال والتشبيك الدولي ولن يبقى خارج ذلك الا هيكلا فارغا الا من المضمون السياسي ربما.
اي متابع جدي لما كان يحدث في الكواليس يفهم ان الصفقة الافضل للشيخ هي مع طرف يمكن ان يساومه او لا يكون تهديدا للمسار العام الذي ينظر اليه. ونبيل القروي بالقضايا الموضوعة على كاهله يمثل الطرف الضعيف سياسيا لكن الوازن برلمانيا الذي يمكن او يوفر استكمال التركيبة. الثمن سيكون باهضا سياسيا لرئيس الحركة في السياق الراهن. لكنه منسجم مع الدروس الاستراتيجية التي تعلمها في مرحلة الانتقال الديمقراطي. واعتقد ان على راسها ليس هناك مجال لنسق ثوري في تونس وان المهمة الاساسية هي وراثة المنظومة والتعاقد معها وضمان غطاء دولي.
وفق هذه الاحداثيات، امتناع رئيس الحركة الدخول في مفاوضات جدية والدرس الاستراتيجي الذي يؤمن به، يصعب ان نرى ان ايجاد حل لتركيبة البرلمان ستتجه نحو خيار التوافق مع التيار والشعب الا اذا كان ضغط الشق الاخر بشكل مفاجئ اقوى من ان يتحمله احد، واذا اقتنع رئيس الحركة وفريقه ان الامر يستوجب جولة اخرى في الانحناء لعاصفة التغيير، والابتعاد عن «التوافق».
جلسة الاربعاء، وربما اذا امتدت الى الخميس ستحسم ذلك.