الحركات الاجتماعية من أين وإلى أين ؟

من يتأمل تاريخ تونس الحديث يتبين له أن الحركات الاجتماعية ساهمت بصفة أساسية في تحديد ملامح وخصوصيات هذا التاريخ ، وهي التي حددت تقريبا كل المرجعيات الفكرية السياسية . فان كل ما تم من اصلاحات وتغيّرات في التوجهات السياسية كان نتيجة لضغوطات معنوية

جاءت عن طريق الاحتجاجات و التمرّد في بعض الحالات لهذا الحراك الاجتماعي .

ويمكن أن نعتبر ذلك من سنة 1924 عند ظهور الفكر التعاوني مرورا بأحداث 9 أفريل 1938 وإضرابات الحرفيين والصناعيين وصغار التجار ، وتأسيس النقابات بمختلف تنوعها إلى اندلاع الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي. وأيضا أحداث جوان 1967 والمسيرات الطلابية في 1972 ،وانفجار الوعي النقابي في 1978. الى ثورة الخبز سنة 1984 وانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وصولا الى ثورة 2011 .

وبالطبع كل الحركات الاجتماعية التي برزت في كل أنحاء الجمهورية وخاصة في المناطق الجنوبية حتى إلى ما يحدث اليوم في الكاف و قبلي و تطاوين وقرقنة وغيرها من المناطق التي شهدت تحركات احتجاجية في المدة الأخيرة كانت لها انعكاسات عميقة على المشهد السياسي. ويمكن أن نؤكد ذلك وعلى سبيل المثال ظاهرة مقاومة الفساد أخيرا والتي تبنتها الحكومة هي بالطبع نتاج للتحركات اجتماعية الأخيرة.
ويتبين من خلال قراءة كل هذه الأحداث:

1 - أن الحركات الاجتماعية لعبت دورا أساسيا في بناء ملامح البنية السياسية.

2 - أن الأحزاب السياسية كانت دائما تلتحق بالحركات الاجتماعية سواء لدعمها أو لتطويقها أو لاستغلال أثرها على المستوى السياسي و الايديولوجي فلم تكن الأحزاب السياسية لها الدور الطلائعي في كل هذه الأحداث دون استثناء.

3 - أن الحزب الوحيد الذي تفطن إلى هذه الخصوصية التونسية هو الحزب الحر الدستوري التونسي الذي عمل منذ 1932 على جمع الحركات الاجتماعية، وجعلها متضامنة وفاعلة من أجل استقلال تونس. ولكن لم يواصل هذا الحزب مشروعه السياسي الاجتماعي الشعبي ،ومنذ سنة 1964 (مؤتمر المصير ببنزرت) حاول الحزب الدستوري التونسي الضغط على الحركات الاجتماعية وتحويلها إجباريا إلى منظمات تابعة للحزب.

وواصل هذا الحزب التخطيط للقضاء على هذه الحركات الاجتماعية سواء كانت نقابات أو منظمات وطنية.ومن هنا تطورت الأحداث وأدت الى صدامات عديدة ومشتركة وإلى قطيعة بين هذه الحركات و غيرها . حيث أصبحت الأغلبية الاجتماعية لا تحظى بحضور سياسي وحاولت الأحزاب التي تمثل الأقلية أن تعوضها في المشهد السياسي وبالطبع لم تنجح في ذلك ، الأمر الذي جعل هذه الأحزاب تتسارع في استثمار هذه الحركات الإجتماعية دون مشروع سياسي اجتماعي واضح المعالم.

4 - أن كل هذه الحركات الاجتماعية منذ بدايتها إلى اليوم كانت ولا تزال مشتّتة وكل حركة تعتبر نفسها استثنائية و نموذجية في المجال الاجتماعي والسياسي والفكري وهي أيضا ليست في حاجة الى التفاعل مع بقية الحركات الاجتماعية. وتسقط في فخ المغازلة السياسية من أحزاب المعارضة أو أحزاب السلطة و من جمعيات أو أيضا من نقابات للاستفادة منها ومحاولة جعلها نتاجا لمرجعيتها السياسية والفكرية. وفي غياب التنسيق بين الحركات الاجتماعية غالبا ما تبقى في المشهد الظرفي وفي البعد الذاتي المحلي وفي بعض الحالات في الشاعرية الثورية وتهميش المطالب الاجتماعية الحقيقية.

5 - لتجاوز هذه الظواهر يتعين على هذه الحركات التي تمثل الأغلبية وهي التي تؤثر على تطور المسار التاريخي لتونس أن تتحول الى أغلبية وطنية سياسية وهي في حاجة حسب اعتقادنا إلى تأسيس تحالف اجتماعي وطني ، ولعل هذا التوجه هو الذي سيجعل هذه الحركات تدريجيا فاعلا سياسيا في بناء الجمهورية الديمقراطية.

وخلاصة هذه الرؤية أن كفاية من اعتبار هذه الحركات الاجتماعية غنيمة أو هامشية في بناء تاريخ تونس وأن كل الأحزاب السياسية المتواجدة لا يمكن أن تتطور خارج الحركات الاجتماعية. وكان حسب رأيي أن الأحزاب المترشحة للحكم بعد الثورة وتحديدا نداء تونس كان عليه ان يستند لهذا العمق التاريخي التونسي في مسألة الحركات الاجتماعية ، حيث كان من الأجدى أن يكون هذا الحزب تجمعا وتحالفا بين الحركات الاجتماعية بما في ذلك مختلف النقابات العمالية و الأعراف و الحرفيين وصغار التجار ،ليتحول إلى أغلبية برلمانية مؤهلة للحكم وهذا المعنى الحقيقي لمفهوم الوحدة الوطنية. وكل حزب لا يأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية التاريخية التونسية محكوما عليه حتما بالفشل.

بقلم :
الأستاذ
رضا التليلي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115