«على الأطراف المتنازعة في السياسة اللبنانية أن تُقدم مصلحة الوطن على كل اعتبار آخر، سواء أكان هذا الإعتبار شعبوياً أومذهبياً أو طائفياً أو مناطقياً أو خارجياً»... و»الخطاب الوسطي خطاب جامع لكل الناس تعلوه مصلحة الوطن والابتعاد عن النزاعات الإقليمية والدولية». ..هذا أهم ما أكده الباحث والكاتب اللبناني د. عبد الإله ميقاتي رئيس مجلس أمناء جامعة العزم اللبنانية وعضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في لبنان في حديثه لـ«المغرب» معتبرا ان لبنان يمرّ بأزمة اقتصادية غير مسبوقة مما يتطلب خطة انقاذ سريعة . وتطرق في هذا الحوار الى مستجدات الوضع في لبنان ومقاربته للأزمة الحالية التي يمر بها. وميقاتي هو أيضا باحث وكاتب لديه عديد المؤلفات في مجالات الفكر والتعليم والثقافة والاقتصاد مثل «مدخل إلى فقه النعمة» و»مسيرة التعلم عند العرب: بين ماضٍ مشرق، وحاضرٍ أليم، وغدٍ مرتجى»وغيرها من المؤلفات والمقالات العلمية والفكرية المنشورة في صحف لبنانية وعربية.
• أولا كيف تنظرون الى الوضع في لبنان وما أسباب الأزمة الحالية؟ ويحمّل البعض مسؤولية الأزمة الى النظام السياسي نفسه المبني على المحاصصة الطائفية فكيف ترون ذلك؟
المجتمع اللبناني تعدّدي بامتياز، فيه سبع عشرة طائفة ومذهبا، وما يزيد على سبعين حزباً سياسياً وحركة وتيارا. وقد اختلطت التباينات السياسية وتلونت بألوان مذهبية وطائفية. وتبع ذلك علاقات خارجية إقليمية ودولية متباينة أثّرت على الخلافات الداخلية. فأصبحت هذه الخلافات الداخلية، تقوى وتزداد توتراً كلما تأججت الخلافات الإقليمية والدولية. وهذا ما أدى الى سياسة النأي بالنفس عن الخلافات الإقليمية، التي أطلقها الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2012 - عندما كان رئيساً للحكومة وبدأت في وقتها الإضطرابات الداخلية في سوريا - فشكلت هذه السياسة الحكيمة المخرج السليم للموقف اللبناني، وأصبحت بعدها جزءاً لا يتجزأ من البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة.
• في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي ..ما هي مقاربتكم للإصلاح ؟ وهل يمكن هنا الاستعانة بتجارب دول مرّت بظروف شبيهة بلبنان وخرجت من محنتها؟
أقرت تعديلات الدستور التي تم الإتفاق عليها في الطائف في نهاية الحرب اللبنانية - التي استمرت خمسة عشر عاما - التوزيعَ الطائفي في مراكز الفئة الأولى في وظائف الدولة، وتركت كل ما دون الفئة الأولى للكفاءة المهنية المطلوبة. لكن وللأسف الشديد لم تتم مراعاة هذا المبدإ السليم. فالمواطن الذي يذهب إلى أية دائرة رسمية، لا يهمه من الموظف الذي يجلس خلف الطاولة ليقوم بخدمته، سوى الجودة في القيام بواجبه على أفضل وجه، وبالتالي كفاءة الموظف وإخلاصه في عمله، يتقدمان على ما سواهما من عقيدة دينية أو سياسية أو انتماء مناطقي أو غير ذلك لهذا الموظف. ولم تتم مراعاة هذا التعديل الدستوري البالغ الأهمية الذي أرساه الطائف ليكون خلاصاً من الأزمات المتلاحقة.
• أحد أهم أسباب الازمة النظام الاقتصادي القائم على الاستيراد عوضا على الإنتاج فهل يمكن اليوم اصلاح الوضع عبر هيكلة قطاع الإنتاج الصناعي والفلاحي المحلي ودعمه؟
لم يعرف لبنان أزمة اقتصادية كالتي تعصف اليوم بالوطن. فالإقتصاد اللبناني قبل حرب الـ15 عاما، أي قبل عام 1975 عرف ازدهاراً كبيراً، حتى وإن كان اقتصادا ريعيا في جزءٍ منه. فقد كان الإستيراد دائماً يتفوق على الإنتاج والتصدير. وكان الفرق بين الإستيراد والتصدير يتأمن من خلال السياحة الواسعة، نظرا للطبيعة الخلابة والآثار الكثيرة المنتشرة على كل الأراضي اللبنانية، والنظام المصرفي الحر والسرية المصرفية، وكان غالبا ما يُطلق على لبنان: جامعة العرب، ومستشفى العرب. فقد تميزت مؤسساته الصحية والتعليمية والفندقية، تميزاً بالغاً، جعل التوازن الإقتصادي المطلوب محققاً بيسر وسهولة. أما بعد الحرب، وبسبب إعادة إعمار ما خلفته الحرب من دمار في المؤسسات والبنى التحتية، فقد بدأت الإستدانة من الداخل والخارج، وزادت في عمليات الإنفاق خدمة الدَّيْن وتراجعت السياحة والخدمات، وزاد الدَّيْن بسرعة، وازدادت معه خدمة الدَّين بشكل ملحوظ وارتفعت فوائد السندات، وهذا ما جعل التوظيف في سندات الخزينة أجدى من إقامة المؤسسات والمصانع والمشاريع الإنتاجية. فكان الحراك في 17 تشرين الأول من العام الماضي، وبعده جائحة الكورونا، مما فجّر الوضع الإقتصادي تفجيراً غير مسبوق، وجعل الدولة تتراجع عن تسديد سندات اليوروبوندز للخارج، وخرجت رؤوس الأموال الكبيرة من المصارف اللبنانية، وتوقفت تحويلات المغتربين، وبالطبع أصبحت الإستدانة من الخارج مستحيلة. وأصبحت المؤسسات الخاصة غير قادرة على تسديد رواتب موظفيها، فأُغلقت نسبة كبيرة منها، وتم تخفيض الرواتب في باقي المؤسسات... (والحبل على الجرار – كما يقولون).
• يحمّل البعض مصرف لبنان مسؤولية تدهور العملة اللبنانية بسبب السياسة المالية فكيف ترون ذلك؟
لا يجوز تحميل جهة واحدة مسؤولية ما جرى ويجري على الساحة اللبنانية، فالدولة مجتمعة هي المسؤولة عن الإستدانة دون خطة إقتصادية واضحة، ومجلس النواب اللبناني هو الذي يوافق على إصدار سندات الخزينة، ومصرف لبنان هو الذي يشرف على السياسة النقدية. ويرى بعض رجال الإقتصاد أن عملية تثبيت سعر صرف الدولار على مدى 30 سنة تقريباً كان خطأً كبيراً، بينما يراه البعض سليماً ولمصلحة المواطن اللبناني. ولا شك في أن هذا الرأي وذاك يشكلان جزءاً من الخطة الإقتصادية التي كان يجب وضعها من قبل السلطة السياسية والعمل على أساسها على جميع الصعد.
• ما دور منظمات المجتمع المدني في الحفاظ على تماسك المجتمع اللبناني خاصة لدى الفئات الهشة ، بالنظر الى انكم اشرفتم على جمعية العزم وهي ناشطة في العمل التطوعي والخيري ؟ ولو تحدثنا عن هذه التجربة؟
تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً مساعداً في تماسك المجتمع، ولا يمكن لها أن تحل محل الدولة ومؤسساتها ورعايتها لمواطنيها. أما بالنسبة لجمعية العزم والسعادة الاجتماعية فقد قامت منذ تأسيسها منذ ما يزيد على ثلاثين عاما من قبل المؤسسين الرئيس نجيب ميقاتي وشقيقه الأستاذ طه، والتي عملت على دعم ورعاية أصحاب الحاجة والمعوزين، من خلال المستوصفات الصحية والمساعدات الاجتماعية والاستشفائية والمساعدات التعليمية، جامعية ومدرسية، وغير ذلك كثير. وفي هذه الظروف ازدادت الحاجة كثيراً وكثيراً، مما استوجب التعاون بين جميع مكونات المجتمع والتنسيق فيما بينها، تنسيقاً سليماً فاعلاً هادفا. وهذا ما نسعى إليه بكل ما أوتينا من علاقات اجتماعية ومؤسساتية لنضعها في خدمة أبناء البلد.
• هناك اليوم إخفاقات عديدة في مؤسسات الدولة في ما يتعلق بدورها الاجتماعي المغيب تماما وهذا ما لاحظناه خلال الأزمة وربما كان ذلك من أسباب ذلك تبني لبنان منذ البداية للنظام الليبرالي بكل ما يحمله من محاسن ومساوئ فما أهمية إعادة الدور الاجتماعي والصحي للدولة ؟
لا شك أن إخفاقات السلطة ما بعد الطائف كانت عديدة. فلم تتم معالجة المحاصصة الطائفية والسياسية، ولم تتم معالجة النفايات، ولا أزمة الكهرباء، ولا محاربة الفساد المستشري ولا أزمات الإنفاق في غياب خطة إقتصادية سليمة: يتم الإنفاق على بنودها، ويلتزم الجميع، السلطة والمعارضة، بالتطبيق الكامل لها. فالاختلاف في السياسة يجوز، أما الإختلاف على الإنقاذ الإقتصادي، فلا يجوز، لأن الإقتصاد السليم يقوم على الأرقام والنزاهة والشفافية.
• نلاحظ ان هناك ازمة ثقة بين شرائح لبنانية عديدة وبين الطبقة السياسية وهذا ما أدى الى تفاقم الوضع وتصاعد الاحتجاجات الشعبية ... فالى اين يسير الوضع؟ وما ٍرأيكم في تعامل الحكومة مع الأزمة وهل كانت في مستوى الحدث ام أخفقت؟
يسير الوضع للأسف إلى مزيد من التأزم، ذلك أن الوضع الإقتصادي، المعيشي والاجتماعي في تدهور سريع ومريع. والإنقاذ الصحيح يبدأ من أن الإعتراف بالخطإ فضيلة، والرجوع عنه يتطلب إصلاحاً بنيوياً سريعاً، في إطار الدستور. ويبدأ ذلك بتقصير مدة مجلس النواب الحالي، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، تعكس تطلعات وطروحات الإنتفاضة المحقة، وتعقبها انتخابات رئاسية. أما بالنسبة لتعاطي الحكومة الحالية مع الأزمة، فالأمر ليس بالمستوى المطلوب أبداً، فالمحاصصة في التعيينات لا زالت قائمة، ورموز الفساد لا تزال تسرح وتمرح رغم الاتهامات المتبادلة بين المسؤولين، ورغم أن سعر صرف الليرة اللبنانية في الأسواق لم يتوقف، والغلاء يزداد بين يوم وآخر، وتوقف المؤسسات وصرف الموظفين قائم على قدم وساق، وتذهب بعض التوقعات إلى أن عدد العمال المسرحين من عملهم سيبلغ المليون نسمة في نهاية العام الحالي.
• يرى البعض ان الحصار الاقتصادي الجاري على لبنان هدفه إيقاع فتنة داخلية من اجل توتير الوضع الداخلي وتأجيج خطاب العنف السياسي والديني ..فكيف يمكن مواجهة ذلك والحفاظ على امن واستقرار البلد من كل خطر ؟ والى أي مدى اليوم لبنان يحتاج الى خطاب وسطي جديد؟
الخطاب الوسطي موجود وهو خطاب العقل السليم، وهو الذي يشكل زورق الإنقاذ في لبنان التعددي. ولكن على الأطراف المتنازعة في السياسة اللبنانية أن تُقدم مصلحة الوطن على كل اعتبار آخر، سواء أكان هذا الإعتبار شعبوياً أومذهبياً أو طائفياً أو مناطقياً أو خارجياً. الخطاب الوسطي خطاب جامع لكل الناس تعلوه مصلحة الوطن والابتعاد عن النزاعات الإقليمية والدولية. وما سياسة النأي بالنفس التي أوجدها وانتهجها الرئيس نجيب ميقاتي إلا وجه من وجوه الوسطية الجامعة. ولو التزمت بها وطبقتها جميع الأطراف السياسية في لبنان، لشكّلت إنقاذاً للبنان من إنعكاسات النزاعات الإقليمية والدولية.
• يشهد لبنان والمنطقة برمتها تحولات عديدة بسبب كورونا التي كانت احد اهم أسباب تفاقم الازمة الاقتصادية في لبنان فكيف ترون ذلك؟
بدأت الأزمة الاقتصادية في لبنان مع بدء الحراك المدني في 17 أكتوبر وازدادت حدتها بتسارع قوي مع وصول الكورونا إلى لبنان، وانتشارها في العالم العربي. وتأثير كورونا الاقتصادي على العالم كله كبير جداً، فالخسائر المتوقعة في العالم تجاوزت مئات التريليونات من الدولارات، ولأول مرة في تاريخ العالم يهبط سعر النفط الخام إلى أرقام بالاتجاه المعاكس.... . وباختصار شديد الوضع الاقتصادي في العالم بعد كورونا لن يكون كما كان قبلها. ومؤتمرات القمة الدولية المختلفة تحاول أن تضع خططاً للتعافي، وستظهر مؤشرات المرحلة الجديدة تباعاً، وخصوصاً إذا لم يتم التوصل إلى لقاح فعال، وعلاج مناسب، ومعايير وإرشادات لتجنب إعادة الإنتشار.
الكاتب والباحث اللبناني رئيس مجلس أمناء جامعة العزم في لبنان عبد الإله ميقاتي لـ«المغرب»: الخطاب الوسطي المعتدل يشكل زورق الإنقاذ في لبنان التعددي
- بقلم روعة قاسم
- 09:44 24/07/2020
- 1409 عدد المشاهدات
• الوضع الاقتصادي في لبنان يسير نحو مزيد من التأزم ويتطلب إصلاحاً بنيوياً سريعاً
• الخلافات الداخلية في لبنان تقوى وتزداد توتراً كلما تأججت الخلافات الإقليمية والدولية