الكلاب لماذا توقف الأدب عن أن يكون صعبًا ؟

بقلم: زياد عبد القادر كاتب وشاعر
انتباه!
تعرفون ذلك المشهد الذي يصوّر نبيلا يتجوّل في مِلكيته الشاسعة على ظهر حصانه، متبوعا بكلبه. وسط هذه المِلكية المحروسة جيدا،

لماذا الكلب إن لم يكن لإضفاء لمسة أرستقراطية على السيد، مثله مثلَ قبّعة الريش وحزام الجلد المرصّع بالزمرد؟ بحق الله، أليس كأنني أحدثكم عن الأدب؟ ليس عندي نيّة في اثارة غضب الكتّاب. أعرف أنّ تشبيههم بالكلاب قد يثير حفيظة أكثرهم رزانةً. ولكن، ماذا عن الكلب؟ ما الذي حصل لتنحطّ هذه الكلمة العظيمة إلى ما لا يزيد عن شتيمة؟
ليس واردا عندي أن أصفّي من خلال «الكلب» خصومةً أدبية. ولو صحّ أنّ هذه نيّتي، فإنّ هدفي هو أن أصفّي من خلاله خصومةً مع الأدب، لا مع الأدباء. إنّ «كلب الزينة» هذا يجعلنا نفهم، على نحو أفضل ممّا كان سيفعل أعظم ناقد، لماذا توقف الأدب عن أن يكون صعبًا. لماذا بات ينبح بلطف ويهزّ بذيله بعد أن كان يزأر فتردد الغابات صدى زئيره. أيها السادة، قرّبوا وجوهكم منه! أخبروني الآن، ماذا تشمّون في فمه؟ حليبا دسما؟ وفي فرائه؟ شامبو؟ حسنا. لكم أن تتخيّلوا عار هذا الكلب على أسلافه، غوغول، نيتشه، هاينه، ريلكه، الشابي. وهو يمشي ذليلاً خلف سيده، تخيّلوا عاره على سلالة الكلاب العظيمة التي ذرعتِ الجبالَ ماشيةً خلف الضباب فقط.
والآن، انتباه!
خذوا حصانًا مروّضا إلى مدخل غابة. أوقفوه. فكّوا لجامه وأنزلوا سرجه. قفوا جواره صامتين. أخبروه بالنظرات المشجعة أنكم معه، وأنّ بيته الحقيقي هو الغابة. راقبوا صدره وهو يهتزّ وجلده العسليَّ وهو يتعرّق. وحين يبدأ في التمرغ على الأرض اعرفوا أنّ سمّ العبودية قد تحرّك في جسمه. لا تجزعوا. بل انحنوا فوقه واهمسوا له في أذنه، حتى وإن كان غائبا عن الوعي، بأنه أقوى من السم. تأمّلوا اختلاجه في خشوع. مسّحوا على وجهه وعلى رقبته إلى أن يبدأ جسمه المبلّل بالعرق بالتلألؤ كسطح البحر عند شروق الشمس. انتظروا إلى أن ترشح آخر قطرة سمّ من مساماته. لا تأتوا حركة ولا تقولوا كلمة. اكتفوا بالجلوس عند رأسه صامتين ومطرقين. لا تستعجلوه. دعوه يرتاح إلى أن يهدأ صدره ويبرد جلده. انهضوا فقط حين ينهضُ. ستكون أذناه منتصبتين، منخراه متّسعين، وعيناه صافيتين كما لم تكونا قط. سيكون قد سمع أخيرا نداء الغابة. أغلقوا أعينكم عندما يحكّ حافره بالأرض. افتحوها الآن، ولن تجدوا له أثرا.
لا تجرّبوا هذا مع الكلب، فالسمّ الذي في بدنه لا يقارَن في خبثه بأيّ سمّ. خذوه إلى وسط المدينة وتوّهوه بين الأزقة أو ضعوه في شاحنة واتركوه في الجبل، وسيعرف طريق العودة إلى البيت. يزعجنا في الكلب أنه يحكم على جهود تحريرنا إياه بالفشل. ولكن، من منّا لا يحبّ هذا الإخلاص النادر؟ من منّا لا يعجبه هذا الولاء الذي يشعرنا بأنه لا غنى عنا لأحدهم؟
جرّبوا أن تأخذوا شاعرًا بعيدا عن الشعر، إمّا أن يعرف طريق العودة وإلاّ فإنّ الجحيم لن يكون شيئا مقارنة بالعدم الذي سيهوي في قرارته. جرّبوا أن تفصلوه عن قارئه وسوف يقضي في سرعة البرق. عن نفسي، لا أعرف من هو السيد في هذه الحلقة الجحيميّة ومن هو العبد. حقيقةً لا أعرف من مِن هؤلاء الثلاثة يحقق حريته من خلال عبودية الإثنين الآخرين. عندما نبدأ في رؤية الصلات الخفية بين هذه القِطع، فإنّ كل ذلك الهراء عن الأدب بوصفه نقيضًا للسلطة سيذهب أدراج الرياح. كل ذلك الحديث عن «يمين» و»يسار» سيبدو لنا هراءً يليق بكُتيّبات تعليم السياقة لا أكثر. ماذا سأستنتج من هذا الهيام بكلمة «يمين» و»يسار» سوى أنهم قد فهموا الكتابة في حدود ما تسمح به قواعد السّير؟ «خط متقطع/ يُسمح بالمجاوزة». «خط متواصل/ مجاوزةٌ ممنوعة». «علامة دائرية حمراء، بوقٌ/ يُمنع استعمال المنبّه». «علامة مثلثةٌ حمراء/ خطرُ خروج أبقار».
بقرةٌ...
انتباه!
لقد قرأتُ أدبهم، بالضبطِ، كما أرادوا هم مني أن أقرأه. قرأته كمن يتنزه في الريف محاذرا أن تنطحنه بقرة أو يعضّه كلب أو أن يدهسه حصانٌ جُنّ من فرط ضربه بالسياط. كلبٌ ينقضّ على قدمي اليمنى. بْراااف. ركلةٌ في الوجه. كلب آخر ينقضّ على قدمي اليسرى. شْطاااف. ركلتان في الوجه وركلةٌ في المعدة. حتى عندما تعلّق الأمر بكاتب شذرِيّ مثل فالتر بنيامين، فقد أمكنني أن أرى هرولة الكلب نحوي. شْطاااف. لقد أمكنني أن أراه قادما نحوي حتى في مقالة نيتشه عن القرابة الاشتقاقية بين كلمة «المعدن das Erz» و»البرنز aeris»، بل حتى في مراسلات الحبّ بين أناييس وميللر. شْطُرطااف. لقد حكموا عليّ من سُلاميّات أصابعي الطويلة والنحيفة كسيقان وردة الكاردينال، فحسبوا أنه من السهل مهاجمتي. كان هذا خطأ فادحا. أقسم كان خطأ فادحا لم يقدّروا ثمنه جيدا.
خروجُ كلاب سائبةٍ...
انتباااه !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115