خواطر حول القطاع البنكي التونسي

احمد الكرم - رئيس هيئة مديري بنك الأمان
يحرص القطاع البنكي على أن تندرج تدخلاته في منهج المحافظة على صلابة المؤسسات البنكية وتدعيم حركية التنمية الاقتصادية

 وتوفير كل الشروط لتطوير تواجد تونس على النطاق العالمي خاصة عن طريق تدعيم التصدير والإحاطة بالمستثمرين الأجانب وحثهم على الانتصاب في تونس.

ومن أجل القيام بدوره الأساسي في تمويل الاقتصاد، لم ينأ القطاع البنكي عن استنباط عديد الآليات لجمع الموارد وتعبئة الادخار. إذ تستعمل حاليا في السوق البنكية والمالية التونسية كل المنتجات الحديثة التي من شأنها أن توفر السلامة والربحية والسيولة لكل المدخرين. كل ما ينقص هو توفّر عزم حقيقي من طرف السلط حتى يتم إدماج السوق الموازية ضمن الحركية الاقتصادية الرسمية، وبالتالي توجيه الموارد الكبيرة التي تتحكم فيها هذه السوق إلى القطاع البنكي حتى تتم مساعدته على حل مشكل شحّ السيولة.

وعلاوة على تعبئة الادخار، تقوم البنوك بمجهود كبير لجلب الموارد الخارجية عن طريق إقامتها لعلاقات متميزة مع المؤسسات المالية العالمية والإقليمية إلى جانب الإحاطة بالتونسيين بالخارج وبمختلف ماسكي العملة الأجنبية.

وفي ما يتعلق بالصعوبات التي يواجهها القطاع البنكي، تبزر وبجلية إشكالية السيولة التي لا يمكن اعتبارها نتيجة لسياسات السنوات الأخيرة فقط، إذ أن منوال التنمية المعتمد منذ سنوات كان يرمي إلى تدعيم الاقتصاد عن طريق مساعدات وقروض لم يكن من الممكن تغطية حجمها بالموارد الذاتية وبالادخارات النقدية المتأتية من الحرفاء. وهو خلل أستوجبته ضرورة الخروج من التخلف ودفع كل مقومات النمو حتى و إن تطلب ذلك اللجوء إلى البنك المركزي التونسي لكي يمد البنوك بما ينقصها من سيولة.

التحكم في نسبة الفائدة
يعتبر التحكم في نسبة الفائدة من أهم آليات السياسة النقدية للبنك المركزي، حيث يتم استعمال هذه النسبة المرجعية حسب وضعية الاقتصاد في ما يتعلق بمستوى الأسعار والتضخم، إذ لا بد من التذكير بأن المهمة الأساسية لمعهد الإصدار هي السعي إلى الضغط على الأسعار. وخلال السنوات الأخيرة لم يتم إدخال إصلاحات جذرية وناجعة من شأنها أن تساعد على دفع النمو ودعم عرض البضائع والخدمات لكي يتم توفيرها في السوق الداخلية وتصديرها إلى مختلف أصقاع العالم. كما أن البنوك التونسية ومنذ الثورة رأت أنه من واجبها الرفع من قائم القروض لكي تمكّن المؤسسات والأفراد من السيولة الكافية وتتجنّب عرقلة نمو النشاط الاقتصادي، رغم انه كان مقبولا منها أن تراجع سياستها الإقراضية وأن تقلّص من تدخلاتها في انتظار أن تتّضح الأمور وان تبرز نتائج الإصلاحات، لكن مع الأسف لم يتم تنفيذ هذه الأخيرة، مما نتج عنه انخرام كبير بين السيولة المتوفرة في السوق و التطور في الإنتاج وهو ما تسبب في ارتفاع كبير في الأسعار مضرّ بالاستقرار الاقتصادي والسياسي ومحبط لكل عمليات الاستثمار والإنتاج. وأمام هذه الوضعية قام البنك المركزي بإدخال مراجعة عميقة للسياسة النقدية منها خاصة الترفيع الكبير في نسب الفائدة حتى تتقلص نسبة طلب القروض وبالتالي تندر السيولة مما يساعد على إعادة الاعتدال إلى السوق وعلى تراجع ارتفاع الأسعار.

و من جهة أخرى كما أعطت البنوك التونسية، بمعاضدة من البنك المركزي التونسي، في السنوات الأخيرة أهمية قصوى لتدعيم صلابتها وذلك عن طريق تطبيق معايير بازل 1 و2 وقريبا معايير بازل 3. ويمكن الإقرار بأن الموارد الذاتية التي ضخت في البنوك عن طريق الرفع من رأس المال أو تكوين الاحتياطيات المتأتية من الأرباح مكنت جل المؤسسات من أن تطبّق نسب ملاءة تفوق الحد الأدنى المعمول به عالميا. كما أن الارتفاع الكبير في مبالغ الاحتياطات مكّن من تغطية هامة للمخاطر المصنفة مما يمثّل تدعيما لقواعد البنوك المالية وحماية أكبر لحرفائها وهو ما سيساعدها على مواصلة تدعيم الحاجيات المالية للمؤسسات والأشخاص بأكثر أريحية وتوازن.

وبالتوازي مع ذلك اهتمت البنوك بتدعيم كل ما يتعلق بطاقاتها التسييرية ومنظوماتها الإعلامية وقد أتى القانون البنكي الجديد على ضرورة الفصل بين مجلس الإدارة والإدارة العامة وعلى تكوين لجان منبثقة من مجلس الإدارة مهمتها تدارس وضعية البنوك من ناحية المخاطر التي تتحملها ومن ناحية مصداقية وسلامة حساباتها، هذا علاوة على المراقبة المستمرة التي يقوم بها البنك المركزي للقطاع البنكي وعلى العمل المعمّق والدقيق الذي يقوم به مراقبو الحسابات.

ويمكن القول الآن بأن الحوكمة الرشيدة مطبقة فعليا بكل آلياتها وأساليبها وتنظيماتها في القطاع البنكي التونسي وباقتناع تام من طرف مسؤولي البنوك والمدراء والموظفين. والأمر الذي ساهم في إنجاح هذا التوجه ويساعد على ضمان ديمومة القطاع البنكي هو أن ما يزيد عن نصف العاملين في القطاع هم أصحاب شهائد جامعية عليا، الشيء الذي يجعل المؤسسات البنكية تتمتع بقدرات ذكية ومتمكّنة يسهل عليها القيام بالإصلاحات العميقة وبالتحولات التنظيمية الجذرية التي يتطلبها تغير الظرف الاقتصادي وضروريات التعامل مع الحرفاء بمنتجات تكنولوجية متطورة.

ولا بد من ان تكون اليقظة الهاجس الأساسي في القطاع. وهذا يستوجب إدخال التكنولوجيا الحديثة في كل ما يتعلق بالعمل البنكي، فالقطاع مدعو اليوم إلى رقمنة كل عملياته مستفيدا في ذلك من الطفرة التكنولوجية الكبيرة التي يشهدها العالم والتي ترتكز خاصة على استعمال محنّك لكل المعلومات وعلى الارتكاز على الذكاء الاصطناعي. وإدخال هذه التكنولوجيات وغيرها في صلب المنظومات الإعلامية البنكية من شأنه أن يساعد على الضغط على التكاليف مع ضمان منتجات ذات نجاعة فائقة يمكنها تلبية رغبات الحريف باختلاف أنواعها، مع توفّر السرعة في إسداء الخدمات والنصيحة الضرورية لتطوير عمل المؤسسات.

التوجه نحو الرقمنة
هذا التوجه نحو الرقمنة ضروري لتعصير النشاط البنكي، فطرق الدفع المصرفية مثلا قد تغيرت ولم تعد ترتكز على النقود اليدوية بل على التحويلات الالكترونية عن طريق الانترنيت مع اللجوء المتسارع إلى الهاتف الجوال. وأصبح هذا الأخير عبارة عن فرع بنكي يمكن عن طريقه القيام بكل العمليات البنكية بصورة آلية ودون تحمل مشقة الانتقال إلى الفرع. ويساعد هذا التوجه البنوك على التغلب على تحدي الاندماج المالي، إذ أن العديد من المواطنين هم محرومون اليوم من التعامل مع القطاع البنكي الأمر الذي لا ييسّر إدماجهم الفعلي في المنظومة المالية الحديثة ولا يساعدهم على تدعيم دخلهم. وللبنوك التونسية مخططات ترمي إلى الانصهار في الاستراتيجية الوطنية للتقليص بصورة حثيثة في العمليات النقدية اليدوية واستعمال وسائل المعاملات الالكترونية والدفع الآلي، كما هو الشأن في كل الدول المتقدمة منها والنامية.

وتسعى البنوك أن تواجه وبسرعة تحديات تدعيم الاقتصاد الرقمي إذ أن هناك العديد من الشركات الجديدة التي تعمل في قطاعات حديثة، لا يتوفر لباعثيها الضمانات التقليدية الكافية ولكن تمويلها ضروري لأنها تعطي دفعا جديدا للاقتصاد الوطني. وهذا الاقتصاد يجب أن يرتكز نموه أساسا على قطاعات الذكاء التي منها معالجة المعلومات، تكنولوجيات الاتصال، التعليم، الصحة والبيو تكنولوجيا.

ولكي يدعم القطاع البنكي تواجده وتدخلاته لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تعتبر رافدا هاما لخلق فرص الشغل ولتطوير الصادرات والتقليص من الفوارق الجهوية، يبدو من الضروري، إلى جانب توفير التمويل الكافي والملائم، إيجاد آلية للإحاطة بالباعثين ومساعدتهم على إعداد ملفاتهم وتكوين مؤسساتهم وتسييرها التسيير الحكيم والموفّق.

كما ان القطاع البنكي مستعد، لو صحّ عزم أصحاب الحكم، للمساهمة بصفة فَعَّالة في حركية الاستثمار عن طريق اليات التشارك بين القطاعين الخاص والعام. كما انه يعطي أهمية كبرى لتمويل كل الاستثمارات في الطاقات المتجددة وفي النجاعة الطاقية
ومن ضمن الإصلاحات التي نادت بها البنوك التونسية، ضرورة التخفيف من مراقبة الصرف للوصول إلى إلغائه كليا، نظرا لأن تراتيب هذه المراقبة لم تعد تؤدي الوظيفة المنتظرة منها ولم يعد باستطاعتها الوصول إلى نتائجها المرجوّة من تحكم في خروج العملة وتقليص من السوق الموازية ومحافظة على استقرار سعر الدينار، بل أصبحت إجراءات مراقبة الصرف مقلقة للمؤسسات المنظّمة التي تنتظر الأشهر العديدة الرخص من السلط الإدارية لتقوم بعملياتها مع الخارج، وهو الأمر الذي يتاح بصفة آلية لمنافسيها في الأسواق التصديرية العالمية.

لذا لا بد من الإسراع في إقرار إعفاء صرف لكل التونسيين المقيمين اللذين لديهم حسابات بالخارج حتى يحوّلوا أموالهم بالعملة لتوظيفها لدى البنوك المنتصبة بتونس لتستعملها لفائدة تمويل الاقتصاد. ولا بد أيضا من السماح لكل تونسي في فتح حساب بالعملة الأجنبية. كما ينبغي إدخال الحرية في تداول العملات خاصة عن طريق استحثاث إنشاء مكاتب الصرف والعمل على انتصابها في مختلف أصقاع الجمهورية.

دمج البنوك
يعاني القطاع البنكي التونسي من التجزئة، فحجم البنوك التونسية مازال ضعيفا مقارنة بالوضع الإقليمي لمنافسيها وبمتطلبات التواجد الناجع في الخارج. ومن الضروري المساعدة على حثّ مبادرات من شأنها أن تدمج البنوك التونسية فيما بينها أو تخصخص البنوك العمومية حتى يعود بإمكانها أن تتنافس بكل فاعلية مع البنوك الخاصة وأن تنصهر فيما بينها لكي تكوّن قطبا ماليا كبيرا يمكنه أن يكون قاطرة لنفاذ البنوك التونسية إلى الأسواق العالمية، التي أصبح التواجد فيها أمرا ضروريا نظرا خاصة للتوجّه الأساسي والأوّلي لتصدير البضائع والخدمات وللأهمية الاستراتيجية لانتصاب المؤسسات التونسية في الأسواق الإفريقية.
ولذلك لا مفرّ من خوصصة البنوك العمومية ولا يوجد أي موجب لكي تبقى في القطاع بنوك تملكها الدولة بشكل جزئي أو كلي، فالدولة لديها العديد من آليات التدخل في السوق المالية على غرار صندوق الودائع والأمانات الذي يعتبر اليد المالية للدولة في كل ما يخص توجيه الاستثمارات وتنظيم التمويلات طويلة المدى أو التدخل لتطوير قطاعات معينة أو جهات معينة أو القيام بعمليات خاصة ذات طابع استراتيجي وذات ربحية على المدى الطويل.

كما للدولة بنك مختص في تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يهتم بكل ما يخص إعطاء المساعدات والإعانات لتطوير ومعاضدة مثل هذه المؤسسات. كما أن للدولة بنك التضامن الذي يعتبر الآلية الأساسية لتمويل المؤسسات الصغرى والأفراد وللمساهمة في خلق فرص التشغيل وفي استحثاث الاندماج المالي.
فالدولة لا يمكنها عمليا أن تعطي البنوك التي تحت تصرفها التوجه الملائم والدفع الكافي الضامنين لاستقلاليتها الفعلية حتى تتمكن من تحقيق النجاعة المرجوة. وليس من المعقول أن يتم التوجه إلى مجلس نواب الشعب لطلب السماح باستعمال موارد الميزانية لتغطية عجز البنوك العمومية ودعم صلابتها المالية. فمن الأجدر أن يصرف هذا الدعم في أولويات أخرى مثل تطوير البنية التحتية وتكوين اليد العاملة واستحثاث الاستثمارات في التعليم والصحة وغيرها من الاستعمالات التي من شأنها أن تحسن مناخ الاستثمار، لا أن يستعمل في ميادين ما كانت لتستوجب التدخل العمومي لو تمت خصخصة البنوك العمومية وغيرها من المؤسسات العمومية التي تشتغل في القطاعات التنافسية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115