«الواشنطن بوست» قبل يوم من الانتخابات مقالا اكدت فيه، بناء على قراءة مركزة ومتواصلة على مدى اشهر لاستطلاعات الراي والقيام بالتقاطع بينها خاصة في الاسبوعين الاخيرين، وصول الثنائي قيس سعيد ونبيل القروي الى الدور الثاني، بل حاولت ان اقدم تفسيرا. وقد شرعت في بداية هذا الصيف في العمل على مشروع كتاب يتمحور حول الاتهام الرئيسي الموجه للقروي ولقيس سعيد أيضا حول انهما يمثلان توجها «شعبويا». بالاضافة الى تركيز ورصد اهم الاسهامات النظرية بين الاكاديميين المعروفين الذين عملوا عليه والذين تواصلت معهم اثناء التحضير البيبلويغرافي للكتاب، على رأسهم من اعتبره اهمهم Cas Mudde استاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجيا الامريكية والذي عبر على اهتمام بالغ بالحالة التونسية، وقد عملت على الحديث واللقاء مع المعنيين بالامر. مشروع الكتاب تعطل مؤقتا مع تسارع الاحداث خاصة استغراق المرشحين القروي وسعيد في التهيؤ للانتخابات المبكرة والحملة الانتخابية.
المسالة تتجاوز الاشخاص، ولا تتعلق بسعيد او القروي -مع كل الاختلافات الجوهرية بينهما- يمثلان صفة «الشعبوية» بل تتعلق بموجة عارمة كبيرة لم نستطع، واتحدث هنا كفاعل في الطبقة السياسة ما بعد الثورة، ان نتميزها وان نرصدها بالشكل المطلوب. ولا يمكن ان نتعامل مع الموضوع كحدث طارئ خارج السياق، او «خطإ» قام به الشعب. هناك اسباب عميقة تستوجب التوقف بجدية دون تهرب من المسؤولية.
لم يجب ان نعتذر كطبقة سياسية سائدة؟
اختار حوالي المليون ناخب او حوالي 35 ٪ من الناخبين شخصين اي قيس سعيد ونبيل القروي من خارج المنظومة الحزبية السائدة. هذا ودون حساب نسب المرشحين الذين برزوا بسرعة كل بخلفية واسلوب خاص به مثل لطفي المرايحي وسيف الدين مخلوف وحتى الصافي سعيد الى حد ما. كان هناك طلب من قطاع واسع من الناخبين على شخوص من خارج المنظومة الحزبية المعروفة. «الجديد يا رابح» مثلما تقول الجملة العامية، و»الجديد» هنا بمعنى لم يشارك في الحياة السياسية خاصة الحزبية. وهنا تختلف الاذواق بالتأكيد، بين الشخص غير التقليدي الثري الذي يستعمل ماله ومال غيره لتعويض الدولة في اعمال تبدو «خيرية» ويعرض ذلك في مقتطفات بين نهاية مسلسل تركي وبداية اخر في قناته الاكثر مشاهدة وفي قت الذروة، في وقت ملت فيه الناس من برامج السياسة. او الاستاذ المثقف المتعفف الطهوري، الذي لا يقترب اصلا من المنظومة الرسمية سواء في حملته او في التمويل او الاعلام، والذي يكرس خطابه وممارسته للقطيعة مع السياسي المتحزب، ويعرض في المقابل اعادة تأسيس جديدة تفتك السلطة من النخبة السياسية وتعيدها الى الشعب على قاعدة شعار «الشعب يريد»، بمعزل عن مدى نجاعة وجدية هذا التصور.
قبل تقييم نجاعة وجدية رؤى هؤلاء المرشحين يجب ان يكون السؤال المركزي هنا لماذا كفرت نسبة مهمة من الناخبين بالنخبة السياسية المعروفة بجميع اطيافها حتى التي لم تتورط في الفساد، والتعفن؟ طبعا هنا الاجابة معقدة ولا تعني بالضرورة قداسة وصحة الخيار الشعبي. لكن بكل تأكيد وبصفتي مثلا عضوا في هذه النخبة السياسية اعتقد انه علينا ان ندقق في مافعلناه بشكل مشترك وبدرجات لتصل الكراهية الى الرغبة في القطيعة المطلقة واحالة هذه النخبة الى التقاعد. الصورة التي ترسخت في اذهان الناس -وفي ذلك الكثير من الحق والباطل- هي تعميم صورة السياسي المشتغل مقابل أجر والذي يتمتع بامتيازات الدولة للقيام بهذا العمل السياسي، في مقابل عجز الدولة، بمؤسساتها والية عملها وفق نظامها السياسي وعبر الحكومات المتعاقبة ان تقدم حلولا للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة. صحيح ان من حكم يتحمل المسؤولية اكثر ممن لم يحكم. لكن في ذهن الناخب ان تكون جزءا من اي مؤسسات الدولة فانت طرف في الحكم.
بصفتي فاعلا في تجربة الترويكا مثلا علي ان اطرح مطبات عديدة، طرحت بعضها في مقال نقد ذاتي علني سنة 2015، لم كان علينا ان نقضي ثلاث سنوات لانتاج دستور مثالي؟ والذي يبقى مكسبا بلا شك، في حين كانت تطلعات وانتظارات المواطنين العاجلة تتطلب الشروع في اصلاحات هيكلية عميقة؟ لم كان تقاسم مواقع السلطة بتلك الاهمية بما ادى الى انقسام الاحزاب بسبب ذلك او اهتراء قاعدتها الانتخابية بما جعل الانتماء الحزبي يظهر كمدخل للولوج الى السلطة فحسب وليس توظيف السلطة لتقديم الخدمة للناس؟ الم ينته تمسكنا بالسياق الرسمي التقليدي السابق للثورة والرغبة في التشبه بالادارة القائمة الى اهتراء الثقة مع طيف واسع من المواطنين خرجوا بعفوية وبقوة في انتخابات اكتوبر 2011 لاحداث القطيعة مع السابق؟ الم يكن التعامل مع الفساد لينا وارجائيا بل ان البعض تعايش معه وحاول توظيفه للتمويل الحزبي بما جعل احد اهم مشكلات تلك الفترة المبكرة من الحيوية الثورية اي مكافحة الفساد بلا مصداقية؟ الم يكن التعامل مع ملف «التطرف السلفي» مرتهنا بالشعور الرهابي من «المساس بحرية التدين» وايضا منهمكا في سياقات اقليمية تصل الى سوريا الى ان لم يقع الانتباه في الوقت المناسب بتحوله الى خطر عنف ارهابي يضرب الشعور بالامان، احد اهم شروط استقرار اي دولة وثقة المواطنين فيها؟
طبعا هنا لا اعتبر البتة ان الاخفاق في مرحلة الترويكا والذي عوقبنا بسببه انتخابيا في 2014 ناتج فقط عن عوامل ذاتية، هناك عوائق موضوعية داخلية وخارجية بلا شك. لكن الم يكن العامل الذاتي قويا بما جعل العوامل الموضوعية مؤثرة بشكل حاسم؟ بمعنى اخر يجب ان نحاسب انفسنا. ولكننا لم نفعل، او لم نفعل بالشكل الذي يجعل الناخبين يقتنعون بان هناك استشعارا لحنقهم وخيبة املهم العميق، والتي استغرقت ارتداداتها اكثر من انتخابات، سواء بالتصويت العقابي التدريجي، او بتناقص عدد الناخبين اصلا ومقاطعة الصناديق من قبل عدد متزايد من الناخبين.
لنكن واضحين عندما منح قطاع واسع من الناخبين عبر التصويت العقابي لنداء تونس والراحل باجي قائد السبسي فرصة خمس سنوات للشروع اخيرا في الاصلاح استغرق المنتخبون الجدد في المناورات المضيعة للوقت بل التورط في دعم الفساد عبر قانون المصالحة، ومثل المجلس الوطني التاسيسي واكثر من ذلك اصبح لاحقا مجلس نواب الشعب ركحا للسلطة غير الناجعة والصراخ بدون جدوى ومركز كراهية الناس. يكفي ان يقول مرشح مثل قيس سعيد انه سيغير النظام الانتخابي ولن تكون انتخابات تشريعية على اساس القائمات الحزبية، بمعزل عن مدى قدرته على تحقيق ذلك بدون كتلة انتخابية، فانك ستجد طيفا مهما من الناخبين الذين سيجدون فيه تمثلا لكراهيتهم تلك. ايضا نفس الامر عندما يقول انه لن يستعمل امتيازات الرئاسة لا القصر ولا الاجر، بمعزل عن اهمية تاثير ذلك على الميزانية، فان عديد الناخبين يجدون تطلعهم فيه على اساس كراهيتهم لاستعمال عدد واسع من السياسيين للسلطة للبلوغ للثروة.
حول قيس سعيد: قاعدة انتخابية متنوعة لا تخضع للتصنيف الايديولوجي الصارم تجمع الماركسية والفكر المحافظ السيادي
الى جانب الرابط العاطفي الذي نجح قيس سعيد في اقامته مع الناخبين اي عبر الشخصية الطهورية المتعففة التي تعد بمغادرة القصور والامتيازات والتطوع لخدمة الدولة هناك ايضا فكرة رددها باستمرار عبر سنوات ويبدو انها من العناصر التي استطاعت خلق قاعدة له.
بدءا علي ان اكون واضحا حيث لا اتفق مع قيس سعيد في كثير من المسائل. سنة 2014 في لقاء مطول ناقشنا في جلسة مطولة فكرته الرئيسية حول تغيير نظام تصعيد المنتخبين واعتماد القائمات الفردية في سياق «اعادة السلطة للشعب». اعتقد ان هذه الصيغة صعبة التحقيق في وضع هش وانها تسمح بعدم الاستقرار وانها اذ يمكن ان تكون هدفا ستفرضه تطور اليات التواصل فانها في السياق التاسيسي غير ممكنة. كما اني لم افهم كيف يمكن التغيير بدون كتلة برلمانية وازنة تستطيع دعم مبادرته التشريعية من موقع الرئاسة. في المحصلة اعتقد ان الفكرة تنبني على شك عميق في اي نخبة من اي نوع واقامة تعارض مطلق غير واقعي بين النخبة والشعب. مع تأكيدي ان نظام التمثيل المركزي الحالي الذي يلخص التمثيلية الانتخابية في البرلمان ويضعف بقية التمثيليات من خلال الصلاحيات الضعيفة الممنوحة للمجالس البلدية يضرب ثقة الناس في الدولة. على كل احترم كثيرا اجتهاده وثباته في الدفاع عن فكرته.
لكن لناتي الى الاهم تمتلك فكرة قيس سعيد قوة كبيرة في السياق الراهن حيث الثقة في السلطة ضعيفة. من اهداف الديمقراطية جعل ادارة الحكم وسيلة لينة وغير جامدة تتفاعل مع المعارضة وتستوعبها، اي في النهاية ضمان الثقة بين مؤسسة القهر الرسمية اي الدولة والمواطنين عبر الية سلمية وصيغة تجديد التمثيل الانتخابي. لكن اذا فقدت قدرتها على تحقيق ذلك يصبح الاستمرار في ذات الاليات مضيعة للوقت. هذه الفكرة اي مساءلة الديمقراطية التقليدية يشترك فيها مع اعضاء اخرين في حملته وهم اقل شهرة لكنهم ليسوا اقل اهمية. يشير البعض بمنطق الصندقة والتعليب الاختزالية التي تهدف الى التشويه الى ان قيس سعيد مجرد واجهة لحزب التحرير، لكن الحقيقة ابعد من ذلك بكثير. من المفارقات بالمناسبة ان «حزب التحرير-تونس» خاض حملة مكثفة في الاسابيع الاخيرة باللافتات والاجتماعات للدعوة لمقاطعة الانتخابات بوصفها «جريمة» ومجرد «مؤامرة استعمارية». تلك كانت مساهمة حزب التحرير في الانتخابات الرئاسية.
المثير في الموضوع ان بعض اقرب الناس اليه ومن رافقه باستمرار في اجتماعاته وفي حملته الانتخابية احد رموز اليسار الماركسي اللينيني الماوي، احد مؤسسي «الوطج» احدى فصائل تيار الوطنيين الديمقراطيين في الثمانينات واحد رفاق شكري بلعيد، رضا شهاب المكي، المشهور بكنية «رضا لينين». لم يبرز رضا لينين بعد الثورة ضمن مساعي تأسيس «الوطد» بل اكتفى بالكتابة وتجميع من يشتركون معه فكريا في اطار ما سماه «مجموعة قوى تونس الحرة». وكانت الفكرة المركزية في النصوص التي نشرها تتمثل في انه لا يمكن تحقيق اهداف الثورة من تنمية وعدالة وغيرها في اطار دولة تقليدية. وهنا طرح فكرة مشابهة جدا لفكرة قيس سعيد. مثلا كتب في احد نصوصه مؤخرا: «إنّ الانتقال من الدّولة السياسية الفاشلة إلى الدّولة الاجتماعية الّتي يعبّر فيها النظام عبر جميع مؤسّساته عن المطالب الحقيقية للقوى الّتي صنعت الحراك الثّوري يقتضي شكلا جديدا للدّولة يقطع نهائيا مع الشكل الحالي. والشّكل المطلوب، بل الضروري، يقتضي بناء السّلطة السياسية الوطنية انطلاقا من المستوى المحلّي في كلّ معتمدية، إلى الجهوي في كلّ ولاية وصولا إلى المركز، فالسلطة السياسية يجب أن تكون منبثقة من المجالس المحلّية، كما يجب أن يكون أعضاؤها منتخبين بطريقة الاقتراع على الأفراد حتّى يكونوا مسؤولين أمام الناخبين..»
فكرة رضا لينين عندما نتمعن فيها نجد اسسها في نظرية «الديمقراطية الجديدة» الماوية التي تستبطن استعداء «النخبة» (البورجوازية الصغيرة) في مواجهة «الشعب» (البروليتاريا والفلاحين) والتي كانت حجر الركن في نقاشات الفصائل الماوية في تونس والتي كان «الوطج» احد فصائلها. لا نتحدث هنا عن فانتازيا بل عن معطى: حملة قيس سعيد ورؤيتها او مشروعها تتضمن مكونا ماركسيا راديكاليا. وبالمناسبة ليس رضا لينين استثناء بل توجد عضوات خاصة من ذات الخلفية الماركسية في فريق الحملة. لكن ايضا يوجد اخرون محافظون ينسجمون مع قيس سعيد في الجمع بين خلفية محافظة، وليست اسلامية بالمعنى الحرفي للكلمة، وافكار «اولوية السيادة» و»التهديد الاستعماري» لتونس وايضا طبعا «مكافحة الفساد». هذه الاطروحة المركبة تجد عمقا شعبيا بمعزل عن تعبيرها عن معطيات او فهم خاطئ للواقع. بمعنى اخر هذا الخليط الذي يبدو متنافرا من انصار قيس سعيد انما ينتهي الى هوية خصوصية تهمش الاختلاف الايديولوجي وتعطي اولوية للمهام السياسية خاصة ضرب اليات التمثيل والمنهجية التقليدية للتمثيل الديمقراطي بناء على عدم الثقة في الدولة المركزية. ويتجسم ذلك في القاعدة الانتخابية لقيس سعيد التي تجمع بين عدد معتبر من ناخبين صوتوا للنداء وايضا النهضة في 2014 وكذلك نسبة هامة ممن لم يصوتوا سابقا. اذ ان هذا التصور لديه جاذبية خاصة لدى الطيف الواسع من الناخبين غير التقليديين والذين استعصوا على الاحزاب التقليدية.
ماذا الان؟
دعمت ولا ازال الخيار الاجتماعي الديمقراطي بوصفه التعبير المعتدل والاكثر واقعية لخيار اجتماعي تحتاجه تونس. واعتقد ان الناخبين يتعلمون مثل الاحزاب وان ستكون هناك فرصة في المستقبل لهذا الخيار في الحكم. واعتقد ان التيار يبدو الاقرب تنظيميا وهيكليا للتعبير عن ذلك ويبقى معنيا بامكانية تشكيل كتلة برلمانية وفق استطلاعات الراي. لكن ذلك في مرحلة ما قبل ظهور الموجة الاخيرة والتي ستترك اثرها حتما على نتائج التشريعية. امام التيار مهمة كبيرة وهي القدرة على الحفاظ على صورة الهيكل الحزبي التقليدي، والحقيقة لا ارى بديلا له الان، والدفاع عن الخيار الاجتماعي الديمقراطي بدون الصدام مع ناخبي قيس سعيد الذين لا يملكون خيارا في التشريعية ولكن الذين يتبنون افكارا تلتقي مع التوجه الاجتماعي الديمقراطي خاصة فكرة الدولة العادلة بل ايضا دولة اللامركزية و»مكافحة الفساد» واللوبيات العائلية. وهنا طبعا لا يمكن الادعاء ان هناك تطابقا بين رؤية قيس سعيد ومساره وبين التوجه الاجتماعي الديمقراطي، لكن هناك ارضية التقاء وبكل تأكيد في سياق الدور الثاني حول محور سياسي اساسا اي تحييد الرئاسة عن خطر السيطرة عليها من اي مرشحين يمثلون تهديدا كبيرا عليها من موقع النزاهة وخلو الشبهات.
من الواضح ان التواضع واخذ الوقت للتأمل وتجنب القاء الدروس على الناخبين بل ضرورة فهم سلوكهم ومغزى الرسالة التي بعثوا بها يوم الاحد شروط مهمة للتقدم الى الامام، وهو ما آمل ان يقوم به التيار الديمقراطي وغيره من مكونات العائلة الاجتماعية الديمقراطية. في المقابل لئن كان قيس سعيد قادرا على تحقيق اختراق فانه من الطوباوية ان نتخيل اي نجاعة له دون اسناد برلماني، والا فاننا ازاء خطر تعطل مؤسسات الدولة ومزيد تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي.