روبرتاج : تدشين مسلك دراجات في الموقع الأثري بأذونة: أوذنة ... حين يصبح التاريخ دربا تسلكه العجلات !

في ثنايا الموقع الأثري بأوذنة حيث تنام شواهد حضارات عريقة تحت شمس الحاضر،

وفي يومٍ ابتسم فيه الربيع بألوانه الزاهية، انطلقت مبادرة سياحية ورياضية واعدة تتمثل في تدشين مسلك للدراجات الهوائية يعانق أطلال التاريخ وظلال الآثار. وقد أعادت'أوتينا'القديمة والجميلة سرد تاريخها في جولة غامرة على عجلتين، وفتحت دروبا جديدة لاكتشاف سحرها من زوايا غير مألوفة. تمرّ عجلات الدراجات فوق تراب راكمته الحضارات، فلا تقاس المسافة بالكيلومترات بل بحجم الذكريات التي قضيتها لحظات استثنائية في حوار حيّ مع صمت مهيب، ومع جمال نادر... لا يُوصف بل يُعاش !

كانت التظاهرة أكثر من مجرد حدث طريف، كانت رحلة روحية بين الحاضر والماضي، وجسر تواصل بين الثقافة والسياحة والرياضة. احتفالا بشهر التراث واحتفاء بعيد الشغل ، نظّمت وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية، وبالشراكة مع المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بولاية بن عروس، ومنظمة ديامو تونس قرطاج، ونادي أريانة للدراجات، تظاهرة ثقافية رياضية بعنوان: "عبر عبق الأثر وخضرة الطبيعة" بالموقع الأثري بأوذنة.
سياحة ورياضة على خطى التاريخ
على أطراف الموقع الأثري بأوذنة، اصطفت الدراجات في حماس وتأهب لجولة غير عادية أو اعتيادية ، كأنها تستعدّ لعبور الزمن لا المسافات. تتلألأ ألوانها المبهجة تحت أشعة الشمس، فيما تلامس عجلاتها تراب حضارات خالدة. في ذاك الصباح، لم تكن الانطلاقة مجرد جولة رياضية، بل بداية رحلة تنسج خيوط الحاضر على نسيج الماضي، حيث تنطلق العجلات لتحيي ذاكرة المكان وتمنح زائريها تجربة لا تُنسى.
تحوّل الموقع الأثري بأوذنة، بشموخه وعراقته، مسرحا لاحتفالية امتزجت فيها أصوات الدراجات وهمسات الأقدام على الأرض وبهجة الأطفال كالفراشات وهم يركضون أو يمتطون الدراجات. يسأل طفل صغير وهو يعانق الدراجة:"أبي، هلنذهب في جولة حول هذه الآثار؟ كفيلم مغامرات؟" يبتسم الأب ويربت على رأس ابنه:" نحن نعيش مع التاريخ، يا بطل. ولكن بدراجتك هذه، سنركب الزمن على عجلات."; ينظر الطفل إلى الدراجة متحمسا ويبدأ في تحريك العجلات في بطولة طفولية عذبة الإيقاع.
فجأة، يظهر البطل الأولمبي محمد القمودي وابنته نادية القمودي في المشهد ويلتحقان بالضيوف. ليصبح اليوم أكثر استثناء وخصوصية بحضور رمز منرموز الرياضة التونسية، البطل محمد القمودي، الذي جاء برفقة ابنته بطلة'الرالي'نادية القمودي، حاملين في قلبهما تاريخ تونس النابض، ليس فقط على الأقدام، بل على عجلات الأمل أيضا.
معبد الكابتول يتحوّل إلى مسرح حي
تحت أشجار الزيتون الوارفة الظلال، اتخذت المكتبة المتنقلة والورشات الفنية مقرا لها تحت السماء المفتوحة في انعتاق من الجدران والفضاءات المغلقة ليغرق الأطفال وحتى الكبار في ورشات للرسم وللمطالعة والاستطراد بالخيال في حضرة الطبيعة والآثار وأسرار موقع أوذنة العظيم.
بينما كان الأطفال يخطّون أحلامهم على ورق أبيض ويعبّرون عن فرحهم بصيحات وضحكات تملأ المكان، كان معبد الكابتول يتهيأ ليتحوّل إلى مسرح ساحر حيث احتضن حفلا موسيقيا شبابيا وانعتاقا روحيا وحسيا خارج حدود الزمان والمكان. وقد تناثرت أشعة الغروب الذهبية فوق أعمدة الكابتول، فأضفت على المكان دفئا حالِما، وكأنّ الطبيعة قررت أن تشارك في العرض. امتزجت زقزقة العصافير مع حفيف الأشجار مع أولى نغمات العزف الحيّ، فارتفعت الألحان تدريجيا وملأت الفضاء المفتوح وراقصت السماء. من ارتفاع معبد الكابتول كانت السماء أقرب وأجمل والشمس تستعد للأفول، فتحولت إلى لوحة من الأرجواني والبرتقالي، كأنها خلفية مرسومة بعناية لهذا العرض الاستثنائي.أما الجمهور، فقد بدا مأخوذًا، كأنما الوقت توقف بين أنغام الموسيقى وسحرالغروب !
الدراجات خطوة نحو الترويج لموقع أوذنة
على مسافة لا تتجاوز الثلاثين كيلومترا جنوب غرب العاصمة تونس، ترابط مدينة'أوذنة'الأثرية على أكثر من 200 هكتار بهدوء مهيب، كأنها تراقب الزمن من علٍ، محتفظة بذاكرة حضارات مرّت من هنا، وتركت شواهدها على صخور نُحتت لتقاوم النسيان. في قلب سهل خصيب، تستلقي أطلال أوذنة على مساحة شاسعة، تجمع بين المسرح الروماني الضخم، والمعابد، والحمامات العامة، وصهاريج المياه، في مشهد يشي بأن هذه المدينة لم تكن محطة عابرة في تاريخ الشمال الإفريقي، بل مركزا حضاريا نابضا بالحياة والثقافة. كانت تظاهرة "عبر عبق الأثر وخضرة الطبيعة"أكثر من مجرد حدث احتفالي بشهر التراث وأكثر من مجرد مناسبة ثقافية ورياضية بل كانت بمثابة جسر ثقافي بين الأجيال، وخطوة جديدة في مسيرة تعزيز الهوية الثقافية في جمع بين التراث والبيئة وابتكار سبل أخرى للسياحة الثقافية وللتواصل مع تاريخنا عبر وسائل صديقة للبيئة.
"إنّ 'أوذنة' ليست مجرد موقع أثري بل نواة لهوية محلية عميقة. كل محاولة لإعادة إحيائها ثقافيا هي استرجاع لجزء من ذاكرتنا الوطنية "، هكذا أكدت المديرة العامة لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية ربيعة بلفقيرة بمناسبة تظاهرة 'عبر عبق الأثر وخضرة الطبيعة'في الموقع الأثري بأوذنة، والتي صرّحت: "نظرا لاتساع الموقع وصعوبة زيارته دون وسيلة نقل، وبما أن أوذنة منطقة طبيعية، فإن استخدام الدراجات يعتبر الخيار الأمثل. نهدف إلى فتح مواقعنا الأثرية ضمن أنشطة ثقافية، لتشجيع المواطنين على زيارتها والتعرف على هذه الفضاءات، ولتحفيزهم على استكشاف تراثهم الثقافي. ولعل الوقت قد حان لتنال أوذنة ما تستحقه من إشعاع وإقبال ووفود سياحية فهي مدينة فريدة من نوعها في شمال إفريقيا تستحق التعريف والترويج والإدراج ضمن المسارات السياحية الكبرى".
قد نغادر أوذنة في كل مرة على أمل الرجوع إليها مرة أخرى، فهناك الآثار ليست مجرد أطلال، بل مرآة لمدينة عرفت كيف تعيش ولا تموت، وكيف تعود لتُبعث من جديد في عيون من لا يزالون يقرؤون التاريخ بشجن وحنين... وتوق إلى عالم جميل.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115