انقلاب في المشهد السياسي الفرنسي: هزيمة تاريخية لليمين المتطرف انتصار اليسار المفاجئ يربك الطبقة السياسية

سجل الدور الثاني للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها نتائج كذبت كل التوقعات والتكهنات

الناجمة عن مؤسسات سبر الآراء، وقيادات الأحزاب، والإعلام العمومي والحر. ففي ظروف كان الرأي العام الفرنسي والعالمي ينتظر انتصار حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، خرجت الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية متصدرة قائمة الناجحين. وقد فازت الجبهة بعدد 182 مقعدا في حين حازت الأغلبية الرئاسية "معا من أجل الجمهورية" 168 مقعدا أمام التجمع الوطني المتطرف المتحالف مع إريك سيوتي الذي لم يسجل سوى 143 كرسيا برلمانيا. أما حزب الجمهوريين (الجناح التاريخي) فقد حصل على 45 مقعدا مما يمكنه من تشكيل كتلة برلمانية.

هذا المشهد البرلماني الجديد يعطي لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة مجلسا بدون أغلبية يتمحور حول ثلاث تجمعات لا تتمتع بعدد 289 الذي يخول لها تشكيل الحكومة. انتصار اليسار المفاجئ يحتم عليه التحلي بروح المسؤولية والتخلي عن الانشقاقات التي تهزه وتحييد بعض الوجوه القيادية من أجل لم شمل الفصائل حول البرنامج المتفق عليه. رهان جديد يحد من نشوة الانتصار على اليمين المتطرف وعلى مشروع الرئيس ماكرون في آن واحد.
من سيحكم البلاد؟
أمام فقدان الأغلبية وتشتت التجمعات السياسية مع اتفاق أغلبية النواب على رفض التعامل مع حزب مارين لوبان المتطرف، عب عبّرت بعض الشخصيات عن أفكار أولية لفتح الباب أمام تحالفات جديدة تمكن من تشكيل أغلبية. من ذلك أن أعلن الوزير الأول غابريال أتال عن نيته تقديم "عرض سياسي جديد" في محاولة للتحرر من كابوس الرئاسة. من ناحيته قدم بعض قادة اليسار الفائز تصريحات متناقضة. ففي حين بادر جون لوك ميلونشون بالاعلان عن ضرورة أن يعين الرئيس وزيرا أولا في صفوف الجبهة الشعبية التي سوف تعمل حسب برنامجها الإنتخابي، اعتبر رافائيل غلوكسمان أحد قادة اليسار أنه من الضروري، لضمان أغلبية برلمانية، إعادة النظر في تقاليد السياسة الفرنسية العمودية والتفتح على فكرة التحالف مع تشكيلات مختلفة كما وقع ذلك في إطار الإقتراع حيث صوت الناخبون لمرشحين ليسوا من صفهم السياسي من أجل عزل اليمين المتطرف. أما أوليفيه فور زعيم الحزب الاشتراكي ومارين توندوليه زعيمة الخضر فقد ركزا على تعيين شخصية توافقية ضمن الأحزاب الفائزة لتقديمها لرئيس الدولة إيمانويل ماكرون كمرشح لرئاسة الحكومة خلال هذا الأسبوع.
وأعلن قصر الإليزيه أن الرئيس الفرنسي "سوف يأخذ القرارات الضرورية بعد هيكلة الجمعية العامة" علما وأن برنامج الهيكلة يمتد من 8 إلى 18جويلية بتشكيل وتقديم الكتل البرلمانية يليه يومي 18 و19 جويلية انتخاب رئاسة الجمعية العامة وباقي المسؤولين البرلمانيين. وهذا يعني أن الرئيس ماكرون سوف يعطي الأحزاب وقتا لتدبر الأمر وخوض المفاوضات من أجل افراز أغلبية يمكنها التعايش واعتماد برنامج حكومي واضح. ولا يخفى أن الرئيس ماكرون في هذا السيناريو لن يفرّ من عملية "تعايش" مع أخصامه القدامى وأن نية تقديم سياسة بديلة من خلال تصريحات غابريال أتال سوف تنخر حتما صرح الرئاسة وتحول النظام فعليا إلى نظام برلماني يهيمن فيه القرار البرلماني على طموحات الرئيس.
حتمية التغيير
منذ الإعلان عن النتائج ليلة 7 جويلية ظهرت الإنشقاقات في المشهد السياسي الجديد. فكانت تصريحات فصائل اليسار الفائز متناقضة ومختلفة حول التوجهات في تعيين المرشح لرئاسة الحكومة والتحالفات الممكنة وأسلوب العمل. أما الأغلبية الرئاسية المنهزمة فقد أظهرت هي الأخرى تقييمات مختلفة. ففي حين عبّر الوزير الأول غبريال أتال عن تقديمه مقترحا جديدا لم يفصح عن فحواه أكد جيرالد درمانان وزير الداخلية وإدوار فيليب زعيم حزب "هورايزون" عن عدم التحالف مع اليسار الراديكالي الذي هو الركيزة الأساسية في الجبهة الشعبية. تلك التصريحات ولو أنها ظرفية لكنها تدل عن تقييمات مختلفة يمكن أن تعيق التوصل إلى توافق حول برنامج حكومي يحتوي على إجراءات يعتبرها اليسار ضرورية في حين يرفضها شخصيات اليمين التي تشارك في الأغلبية الرئاسية.
حتمية التغيير في هيكلة الأغلبية والانتقال من النظام الرئاسوي الذي اتخذه بكل مساوئه الرئيس ماكرون إلى نظام برلماني تحكمه الأحزاب في ظل الجمهورية الخامسة لن يكون ممكنا دون موافقة الرئيس واحترام شروطه. وهي معادلة صعبة لا يبدو اليوم أن تشكل أرضية سانحة للتوصل إلى اتفاق سريع. ربما لذلك السبب أعطى الرئيس ماكرون مهلة تمتد إلى 18 جويلية لمكين الفرقاء من التفاوض والتوصل إلى نوع من التعايش السلمي بين الخصوم القدامى. في صورة لم يفلح ماكرون في ذلك فسوف تكون الجمهورية بلا حكومة وهو أمر مستحيل. لذى لا مفرّ من أن تدخل كل الأحزاب المعنية بالسلطة في حوار عميق و بناء لتوخي ما هو معمول به في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا أين اليمين واليسار يمكنهما تشكيل حكومة إئتلافية قادرة على إدارة الشأن العام. في غياب ذلك يبقى أمام الرئيس الفرنسي استخدام البند 16 من الدستور الذي يمنحه "السلطات الكاملة" لتعدي صعوبات المأزق السياسي وإدارة الحكومة مباشرة إلى حين يسمح له الدستور بعد سنة من اليوم حل البرلمان مجددا واستدعاء الناخبين لتشكيل برلمان جديد على أمل أن تفرز عملية التصويت أغلبية واضحة.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115