حكومته الجديدة بقيادة الوزير الأول غبريال أتال، نظم مؤتمرا صحفيا يوم الثلاثاء 16 جانفي تابعه 9 ملايين مشاهد على 7 شاشات تلفزيونية من أجل توضيح استراتيجياته السياسية التي سوف تنفذها الحكومة. وهو ثاني لقاء مع الصحفيين يقوم به الرئيس بعد المؤتمر الصحفي يوم 25 أفريل 2019 إثر أزمة "السترات الصفراء"
وكان الرئيس ماكرون قد وعد في حديث سابق للقناة الخامسة بتنظيم"موعد مع الأمة" بداية السنة ترقبه الرأي العام بشغف. وجاءت المفاجأة في تعيين الشاب غابريال أتال على رأس حكومة مصغرة تضم 15 وزيرا في انتظار إضافة باقي كتاب الدولة الأسبوع القادم. واتسمت الحكومة الجديدة برحيل الوجوه اليسارية وتلك التي عارضت موقف ماكرون في شأن الممثل جيرار دي بارديو المتهم بالاغتصاب وبخطاب "جنسي" جلب له استنكارا واسعا في الإعلام الفرنسي. وعوض ماكرون الوجوه اليسارية بوزراء ينتمون إلى اليمين الجمهوري مثل رشيدة داتي التي عينت على رأس وزارة الثقافة وكاترين فوتران على رأس وزارة الصحة والشغل وهي معروفة بمواقفها اليمينية الراديكالية ضد المثليين و "الزواج للجميع".
غياب استراتيجية واضحة
في تقديمه للمؤتمر الصحفي ألقى الرئيس ماكرون ما اعتبره الإعلام الفرنسي "خارطة طريق الحكومة" قبل أن يلقي الوزير الأول غابريال أتال خطاب البرنامج العام للحكومة أمام البرلمان في آخر الشهر. وركز ماكرون في افتتاح المؤتمر على مبدأ "تسليح الأمة" أي تسليح الاقتصاد والشؤون المدنية والأوروبية. وعدد الإجراءات التي طرحها على الحكومة من أجل تدعيم الأمن ومقاومة التطرف والعنف والمتاجرة بالمخدرات وعصابات التهريب التي احتلت بعض الضواحي في المدن الكبرى. وأعلن أن فرقا جديدا من الشرطة المختصة سوف تقوم بعمليات كبيرة لمسح المناطق المعنية واجتثاث جذور العصابات.
بالتوازي مع هذه النزعة أعلن ماكرون كذلك عن نيته ادخال بعض التغييرات في التعليم بدعم التربية المدنية وتعليم حفظ النشيد الرسمي في المدارس الابتدائية وفرض اللباس الموحد على التلاميذ بعد تجربته من قبل 100 مدرسة ومعهد. وحذر الرئيس ماكرون من تردي نسبة الإنجاب ووعد بالعمل على وجود حلول لتشجيع العائلات من ذلك ادخل عطلة للإنجاب للوالدين معا مدة 6 أشهر تعوض العطلة الحالية مع الترفيع في مستوى المنحة. وأكد ماكرون ردا على سؤال من أحد الصحفيين أنه متمسك ببنود قانون الهجرة الجديد وأكد على ضرورة مقاومة الهجرة غير النظامية رافضا فكرة أنه استوحى في القانون عبارات من اليمين المتطرف. لكن الإجراءات المعلنة تدخل، حسب الإعلام الفرنسي، فيمفردات الثقافة اليمينية للحكم الرامية إلى التحكم في المجتمع.
على المستوى الدولي اكتفى الرئيس ماكرون بتكرار فكرة دعم المشروع الأوروبي والتحاف مع الولايات المتحدة الأمريكية بدون الانضواء تحت هيمنتها. وفي خصوص الحرب في غزة، كرر موقفه السابق الداعي إلى تحرير الرهائن المحتجزين من قبل حركة حماس مكررا أن فرنسا خسرت 41 مواطنا في عملية 7 أكتوبر. وأوضح في المقابل أن بلاده أرسلت إعانات إنسانية إلى غزة.
ما لم ينطق به ماكرون
إن خطابات "الموعد مع الأمة" في طقوس الجمهوريةالفرنسية تتمحور حول استراتيجيات الدولة و النظرة التي تقودها في ولاية الرئيس. أي أن يتقدم الرئيس في تلك المناسبات بالخطوط العريضة للإستراتيجيات العامة تاركا التفاصيل وإدارة الشأن العام للحكومة. لكن هذه المرة، أغرق الرئيس ماكرون خطابه بمسائل دقيقة كان من المفروض أن يتناولها الوزير الأول في خطابه للأمة. وهو ما جعل ماكرون يقصي بعض المواضيع الإستراتيجية من خطابه.
فلم يذكر مثلا مسألة "تطوير النظام الديمقراطي" التي سبق وأن ركز عليها والتي تمر عبر إعادة النظر في المؤسسات بتغيير الدستور عبر استفتاء كما كان ذلك مبرمجا. لكنه اقتصر على الإشارة إلى تغيير قانون الانتخابات البلدية في باريس وليون ومرسيليا من أجل انتخاب العمدة بمباشرة من قبل الناخبين. يبدو أنه، في ظروف فقدان أغلبية في البرلمان، أصبحت عملية تنقيح الدستور شبه مستحيلة بعض المخاض العسير لقانون الهجرة وتعدد اللجوء إلى البند 49 – 3 من قبل الوزيرة الأولى السابقة إليزابيت بورن.
ولم يذكر الخطاب مسألة مركزية التحول البيئي في السياسات المقبلة. واعتبر ا، السياسات قد قررت وأن على الحكومة مواصلة العمل في نفس الإطار مع التركيز على أهمية الطاقة النووية في خدمة مشروح التحول. أما في خصوص الشؤون الخارجية، فقد حرص ماكرون على عدم الحديث في فشل سياساته في افريقيا بعد خروج الجيوش الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغلق السفارة الفرنسية في كوناكري. ومن المعروف أن العلاقات الفرنسية المغاربية دخلت في نفق منذ مدة مع الجفاء بين باريس والرباط وصعوبة تطبيع العلاقات مع الجزائر المتمثل في التأخير المتكرر في تنظيم زيارة الدولة للرئيس الجزائري، وتداعيات الخلافات بين باريس وتونس في مسألة إدارة مسألة الهجرة غير النظامية.
حصيلة المؤتمر الصحفي في قصر الإليزيه هو أن أول عملية سبر آراء نشرتها قناة "تي أف 1» بعد المؤتمر أشارت إلى أن 60% من الفرنسيين لم يقنعهم خطاب الرئيس ماكرون خاصة أن المواضيع الحساسة مثل تدهور القدرة الشرائية ورفع سعر الكهرباء والتضخم المالي وأزمة السكن والمواصلات لم تجد مكانا في الخطاب الرئاسي.. كذلك الحال بالنسبة للمعارضة السياسية وجل المحللين في الإعلام الفرنسي. وندد بعضهم بما اعتبروه "ضبابية" في الخطاب لا ترتقي إلى خطاب استراتيجي لدولة عظمى مشككين في عبارة ماكرون التي رددها قائلا "يجب أن تبقى فرنسا فرنسا" وهي عبارة طالما استخدمها اليمين التطرف في إشارة إلى تغيير ضمني للسياسة الماكرونية ترمي إلى فتح الباب أمام التحالف مع قوى اليمين لضمان موقع لحزبه بعد 2027. ويبقى الإعلام بدون جواب على الأسئلة المتعلقة بالسياسات الخارجية للدولة في ظروف دولية متقلبة في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا.
اما فيما بقي من الولاية الثانية، أي 3 سنوات ونصف، فإن العلاقات التي يضبطها الدستور بين الرئيس والحكومة قد تحولت إلى بعدها العمودي: الرئيس يقرر وما على الحكومة إلا تطبيق القرارات الرئاسية. وهو ما يشكل خطرا على المسار الحكومي بسبب تواجد وزراء لا ينتمون إلى توجه سياسي واحد، بل تشمل الحكومة وجوها من اليمين واليمين الراديكالي واليسار والوسط لا تحكمهم استراتيجية واحدة. وهو ما يمكن أن يسفر إلى تقييمات مختلفة وأزمات حكومية محتملة في الأشهر القادمة.