إلا أن مظاهر التضامن مع جنوب أفريقيا والدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية لفرض تدابير تحفظية ضد دولة الإحتلال لإرتكابها حرية الإبادة الجماعية، قد أعاد أركان النضال إلي النبض مجدداً . فكلمات وزير العدل في حكومة جنوب أفريقيا وما جاء بها من مفردات قوية أعادت التأكيد على أن العنف والدمار الذي تمارسه سلطات الإحتلال في الأراضي الفلسطينية لم يبدأ بعد 7 أكتوبر وإنما ترجع معاناة الفلسطينيين إلي 76 سنة ، وعلى الرغم أن جنوب أفريقيا تتطلع إلي إيقاظ الضمير العالمي إلا أن الدول المنحازة والمؤيدة لتل أبيب علي طول الخط لن يروق لها ما تقدم عليه دولة أفريقية قامت نهضتها الحديثة علي نجاحها في مناهضة الفصل العنصري لعقود حتي تمكنت من التحرر من قبضة الاستيطان.
وتمكنت الدبلوماسية والدولة الجنوب الأفريقية من كسب إحترام الشعوب المناصرة لحقوق الإنسان في مواجهة دول وكيانات تدعم المعايير المزدوجة وتغض البصر علي جرائم الإبادة والتهجير والتجويع التي تباشرها سلطات الإحتلال ، ولم تجنح مرافعة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية إلي الخطب البلاغية والحماسية بل إنطوت علي مهنية عالية في تحضير ملف يحتوي علي 8400 صفحة من الأدلة عن جرائم الكيان الصهيوني بحق المدنيين والأطفال والنساء ، ويمكن القول أن المرافعة قد استندت إلي ثوابت السياسة الخارجية لجنوب الأفريقية التي تستلهم محدداتها التاريخية والثابتة تجاه القضية الفلسطينية من كلمات المناضل التاريخي لقارتنا الأفريقية ' نيلسون مانديلا ' بأن حرية شعب جنوب أفريقيا لن تكتمل بدون حرية الفلسطينيين .
وعلي الرغم من اتهامات دولة الإحتلال لحكومة جنوب أفريقيا بأنها تعمل كذراع قانونية لـ'حماس ' إلا أن تركيز المرافعات على سرد وقائع تم رصدها مع التركيز علي الطابع الإنساني وتصريحات المسئولين الأممين وفي مقدمتها التصريحات التي أدلي بها سكرتير عام الأمم المتحدة بأن ما يحدث في غزة يعد إبادة جماعية ( استهداف المنازل والمستشفيات والمرافق العامة والمدارس ) وكذلك التصريحات الصادرة عن مسئولين الأونروا ، وما إلي ذلك من براهين توثق التصرفات العدائية لسلطات الإحتلال تضع المجتمع الدولي ( دول وشعوب ومنظمات ) أمام مسئوليات تاريخية وإنسانية.
وفي مقابل ذلك المشهد التاريخي والدعم الذي أظهرته وسائل التواصل الإجتماعي مع التحرك الذي أقبلت عليه جنوب أفريقيا بكل جسارة، نجد رئيس حكومة دولة الإحتلال يضطر في اجتماع حزبي إلي تقديم مبررات لاختياره أهارون باراك لتمثيل دولة الإحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية علي إعتبار أنه من الناجين من المحرقة وهو ما يؤكد أن عقول السياسيين في الإحتلال لا تزال تتغذي علي المظالم والإدعاءات وليس لديهم القدرة علي الطرح العقلاني لأن ما يحدث في الأراضي الفلسطينية من إنتهاكات لا يستوعبه عقل بشري سليم.
ومن النقاط التي لاقت استحسانا في الأوساط الإعلامية أن الفريق القانوني الجنوب الأفريقي قد حرص صياغة المرافعة أمام المحكمة بعناية ومهنية تحقق الارتباط الدقيق بين الوقائع والمعلومات الموثقة حول الانتهاكات الإسرائيلية ( استهداف مسارات الإجلاء الأمنة التي حددتها دولة الإحتلال ذاتها ، والحرمان من الوصول إلي المياه والغذاء، و المفقودين تحت الأنقاض ) والتي لم تبدأ في السابع من اكتوبر وإنما علي مدار 75 عاما من الجرائم ضد الإنسانية وكذلك تسليط الضوء علي الخطاب الذي يتبناه مسئولي دولة الإحتلال ويحض علي الكراهية والإبادة واستعرض الفريق الجنوب الأفريقي تصريحات قادة عسكريين ووزراء مجلس الحرب وبرلمانيين والتي جاء بها تحريض علي المدنيين وتدمير وسائل المعيشة للفلسطينيين .
لا يفوتنا هنا التذكير بنماذج التصريحات العدائية فالتصريح الصادر في نوفمبر الماضي من وزير التراث في حكومة الإحتلال بإلقاء قنبلة نووية علي قطاع غزة لا يحتاج فقط إلي براهين وعريضة دعوي وأطر قانونية دولية وإنما يحتاج إلي الاصطفاف إلي جانب الإنسانية واتخاذ تدابير لحماية الأطفال والنساء من ممارسات الإبادة الجماعية. وتفعيل الضغط من جانب وسائل التواصل الإجتماعي وتعظيم الدعم لجنوب أفريقيا للحيلولة دون انحياز قضاة من المحكمة او إذعانهم للضغوط المتوقع ممارستها من داعمي دولة الإحتلال .