صوت من سرقت احلامهم وأجهضت امالهم لارتفاع البطالة والمشاكل المجتمعية والأزمات السياسية والاقتصادية، والمسرح كما الاسفنجة البحرية يمتص كل المشاكل، ينصت للمرهقين ويلتقط اوجاع المتعبين ويحولها الى نصوص ومسرحيات تصنع من الوجع ابداعا ويعتبر موضوع "الحرقة" من المواضيع الحارقة التي باتت مادة فنية يشتغل عليها المهتمين بوجع التونسيين ولكل فنان طريقته في تناول الموضوع وإيصال مشاهد وصور مختلفة عن كيف تحوّل هذا البلد الى قاعة انتظار وصفوف طويلة للمغادرين.
ومسرحية "قونة...قاعة انتظار" عمل جديد يعالج موضوع الحرقة، نص وإخراج لفرحات دبش وتمثيل جمال شندول وحمزة بن عون ولسعد جحيدر وجهاد الفورتي وإضاءة عبد الكريم ضيف الله وتقني صوت وسام سيف النصر وسينوغرافيا حبيب الغرابي وتصميم ملابس اسماء حمزة وموظب ركح ساسي المسعي وتوظيب عام ايمن السريتي والعمل من انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية مدنين، كما صدر نص المسرحية في كتاب عن دار خريف للنشر.
السينوغرافيا اول ابواب الرحيل الى المسرح
بين الموت والحياة خط شفاف جدا، وبين الرغبة في الحياة والهروب الى الموت قوارب الموت الكثيرة، فالبحر لا يعرف حدا للشبع وكلما ابتلع اكثر زاد نهمه للمزيد من الاشلاء والضحايا والأحلام، فكم حلما مات؟ وكم حلما تفتت في اعماق البحر الابيض المتوسط؟ كم آهة صدرت عن أصحابها؟ وكم وجعا كتب على الشواطئ التونسية من تونسيين وافارقة؟، اختلطت الاجساد واجتمعت الاحلام بعد الموت، فالموت رحيم وعادل والبحر كذلك لا يفرّق بين حلم تونسي وحلم افريقي فجميعها احلام هاربة من واقعها الى الموت.
يشتعل الضوء تدريجيا، رجل يغني معبرا بصوته الاجشّ عن سعادته بالعام الجديد، تبرز ملامح المكان ، جدران شبه متهالكة، قشّ منتشر كامل الفضاء، فالسينوغرافيا وجماليات الصورة تكون اول المحامل لتحديد الاطار المكني لأحداث المسرحية، ثم ستتولى السينوغرفيا مهمّة ترتيب احداث العمل وأفكار الشخصيات.
يتحدث الرجل بحبّ مع ضيوفه ويدعوهم الى الرقص، الضوء يتوزع تدريجيا على الفضاء وينقسم الى اربع اشكال مختلفة ليتبين حسب الضوء انّ الشخص يحاكي أمواته، يدعوهم بصفاتهم وآخر الاوصاف التي شاهدهم عليها قبل ان توارى اجسادهم الثرى، فكل اولئك الموتى وعددهم 206 في مساحة ضيقة، كانوا قبل وقت وجيز اجساد حيّة ترقص وأحلام تريد الحياة لكنّ "الشقف" لم يرحم لا الجسد ولا الرغبة في الحياة.
هم اربع شخصيات، لكل منهم حكاية مختلفة وأحلام مؤجلة لكنهم سيتشاركون المساحة الضيقة في خرابة ما في انتظار "شقف" جديد، الشخصية المحورية او صاحبة المكان، هو "المتروك" اي المنسيّ، تناساه اهله والبحر وحتى الموت نسيه وتركه ليتولى مهمة دفن من يلفظ البحر أجسادهم، "المتروك" في مسرحية القونة ربما يكون "خير الدين المنسي" في رواية " شط الارواح" لامنة الرميلي، فكلاهما دفع بحياته لتكون قربانا للموتى.
وشخصية "المتروك" اعادت جمال شندول الى الركح بعد غياب لاعوام طويلة، لعب الممثل بحرفية وتلقائية ليؤكد ان طاقة الممثل وشغفه للركح لا يموتان بفعل الوقت ومتى كانت الشخصية مناسبة يتحرر الممثل من كل القيود.
الشخصية الثانية، غامضة، قليلة الكلام، تتحرك كثيرا يعتقد الضيوف انها افريقية فيحاولون محادثتهم بفرنسية ركيكة، لكن يصدمهم انه تونسي الانتماء واللهجة، تونسي فقط لونه يختلف عن غيره، هو "راضي" ولا يحمل من علامات اسمه شيئا لان الكل يرفضه لاختلاف لونه، ومع سيرورة الاحداث تنقد الشخصية موضوع العنصرية التي يتعرض لها العديد من التونسيين والافارقة، عنصرية اللون ستكون من رسائل مسرحية "قونة" واتقن جهاد الفورتي الشخصية ووجعها في حديثه عن الاوصاف الكثيرة التي يتعرض لها من "وصيف" لى "كحلة وطنبلة".
في المسرحية صنعت الموسيقى الفارق وكانت افضل السبل للمرور من مشهد الى اخر وقد استعان مخرج العمل في الوصلات الموسيقية بالموروث الغنائي لجهة مدنين تحديدا "غبنتن"، فالمسرح يفتح ابوابه لكل الفنون.
الموت واحد ...فقط السبل متعددة
"قونة...قاعة انتظار" هو اسم المسرحية، منذ العنوان سيوجه فرحات دبش بوصلة جمهوره الى موضوع الهجرة غير الشرعية، فكلمة "قونة" في اللهجة الدارجة لتونسية هي مكان تجمّع "الحرّاقة" تلك الاعداد المهولة من البشر الحالمة بعبور البحر لابيض المتوسط الى الضفة الاخرى تحديدا شواطئ "لامبادوزا" الايطالية.
اما النصف الثاني من العنوان "قاعة انتظار" فهو من صناعة مخرج العمل حتى يترك مجال للمتلقي وللشخصيات لتنقل وجعها وفي الوقت ذاته يكون بوابة لمواضيع اخرى ستطرح امام جمهور قاعة الريو التي احتضنت عرض المسرحية.
لذلك تناولت المسرحية العديد من المشاغل المجتمعية ووجّهت سهام لنقد للكثير من القضايا التي تهمّ الانسان التونسي، اول من اصابتهم لعنة النقد على الركح هم الاعلاميين تحديدا "بلاتوهات" التي تتاجر بآلام الناس وأوجاعهم مقابل ارتفاع نسب المشاهدة، بلاتوهات التلفزة جعلت الم الانسان وحرقته مادة دسمة للتحليل وخبراء كثر اصبحوا "ترند" بفعل خطاباتهم الرنانة ومحاضارتهم عن الوجع وبانتهاء الحلقة "ينسى الموجوع كأنه لم يكن".
على الركح تتعرى الشخصيات من حقائقها، على الخشبة يصبح الممنوع مباحا وتصرخ الحناجر ضد كل تلوينات الظلم ، وعلى الركح يختار كاتب النص شخصية فنان لتكون حاملة لوجع الفنانين، "شمس" هو اسم الشخصية جسدها الممثل لسعد جحيدر، فنان فوتوغرافي يحمل الكاميرا اينما حلّ، يوثق لحظات الترح والفرح، ينتقل بين الاعتصامات والمظاهرات والمهرجانات والاجتماعات، يوثق لكل لحظة صادقة، سلاحه "الكاميرا" لكنه يريد الهجرة والهروب من جحيم بلده الى بلد يقدّر الفنان ويعترف بدوره في التغيير ويؤمن ان للفنان حقوقا يجب ان يتمتع بها، ومن خلال شخصية شمس يطرح سؤال متى ينظر مجلس نواب الشعب في قانون الفنان؟ وهل سيبعث القانون الى الحياة وتنفّذ بنوده؟
يعيش الفنان على الهامش، يعيش المسرحي خاصة على هامش المنظومة، يعاني من منظومة الدعم المرهقة للفكرة والفن، ليصبح الدعم مادة للسخرية والتهكم في اشتغالات المسرح التونسي ويحوّل الفنان وجعه الى مادة كوميدية يسخر بها من واقعه.
للسياسة حضورها في العمل، للتناحرات الحزبية وسطوة الانتخابات وجودها في النص المسرحي، فالفاتح (حمزة بن عون) جرّب كل المهن بما فيها السياسة "توليت تاسيس العديد من الاحزاب وفشلت في جميعها، خضت كل الانتخابات وفشلت ايضا)، فالسياسة ستكون مادة سمة للنقد والفرجة في مسرحية "قونة".
"قونة...قاعة انتظار" اعادة قراءة للواقع التونسي بالمسرح، تجربة جمالية صاغها بنص شاعري فرحات دبش وقدمها ممثلين خبروا الركح ووجع المسرح، فكان العمل مزيجا بين الواقعية والخيال، انطلقوا من واقعهم نقدا وتشكيكا ليكون العمل رسالة نقدية اخرى ضد السلطة بمختلف تلويناتها.