الفنون داخل منظومة التعليم العالي في تونس: تعــدد المسارات وانسداد الآفــــاق

بقلم: مفيدة الغضبان
(أستاذة محاضرة في علوم وتقنيات الفنون – جامعة قرطاج)
حين نريد تناول موضوع الفنون داخل منظومة التعليم العالي في تونس علينا أن نفتح واجهتين للنقاش، الأولى حول أنواع هذه الفنون ومعايير التوجيه إليها،

والثانية حول مكانتها داخل المنظومة. هذا طبعا مع الإشارة إلى أننا لا نستطيع ولا نعتزم التعمق في التحليل في هذا المقال المحدود والأوّلي، نحن فقط سنشير إلى مواطن الضعف الكبرى ونسلط الضوء على مواقع الخلل داخل المنظومة، علّنا بعد ذلك، وبتكاثف الجهود من طرف الجامعيين الفاعليين، نتمكن من إرساء برنامج إصلاح، لا يستثنى الفنون كما استثنتها وزارة التربية (عبر تهميش مواد الفنون من مسرح وموسيقى وتربية تشكيلية ...)
الفنون مجال اختصاص داخل منظومة التعليم العالي: إن المختصين في الفنون باختلاف أنواعها، سينما، مسرح، فنون تشكيلية وموسيقى يطرحون دائما نفس التساؤل حول أهمية هذه الاختصاصات ومكانتها في منظومة التعليم العالي نظرا لضبابية المصير بعد التخرج. رغم أن مؤسسات الفنون تتكاثر كمّا، فإن هذه الكثرة لا تحيل بالضرورة على تثمين المسارات ولا هي دليل على إقبال الطلبة والتلاميذ الناجحين في الباكالوريا، لكنّها تشير إلى شيء خطير كان خفيا، وأصبح جليّا اليوم، وهو توجيه التلاميذ المتحصلين على النتائج الضعيفة إلى اختصاصات فنية. وإن هذا التوجه أصبح قاعدة في بلادنا وهو أمر خطير نفهم من خلاله أن معايير التوجيه تمنح أولوية للعلوم والتكنولوجيا وتحقّر الفنون، ولا تثمنها وتضعها في أخر خانات الاختيار والتوجيه مع تمكين كل من يطلبها منها. إن هذا المنطق يفسر لنا محدودية رؤية المشرفين وأصحاب القرار في الشأن الجامعي، إذ يعتبرون الفنون عموما، والفنون التشكيلية خصوصا، مواد لا تستحق ذكاء ولا تميزا، وبالتالي هي في نظرهم شعب سهلة واختصاصات في متناول الجميع، فيوجهون إليها التلاميذ أصحاب المعدلات الضعيفة، والذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالجامعات والمدارس العليا الهامة في تصنيفهم. إن هذا التوجه بالذات هو دليل على إفلاس فكري وسطحية الرؤية، فالعالم الغربي الذي نقتدي بمنظوماته التربوية والجامعية وتعتبره منظوماتنا مثالا في التقدم والاشعاع العلمي والفني، تجاوز هذا التصنيف وهذه المعايير منذ سنين واستطاع عبر تقليص الفارق بين ضوارب المواد العلمية والفنية من إعادة الاعتبار إلى هذه الأخيرة.
فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، أشار المفكر والمؤرخ ألويس ريڤل في كتابه «الأرواح والأشكال» إلى أهمية «الذكاء الفني لشعب ما» أو ما يسميه «روح العصر»، وهو الشيء الذي فقدناه في بلادنا وفي زماننا. فلم نعد نراكم التجارب ونستفيد منها لبناء مشاريع جديدة وفتح آفاق أرحب لجامعاتنا وطلبتنا. ففي مجال الفنون الذي نحن بصدد الحديث عنه، أصبحت السياسات المتبعة من أصحاب القرار وسلطة الاشراف على الجامعات نمطيّة، مغلقة متكررة دون أخذ بعين الاعتبار لتطور الاختصاصات في العالم، وتغيير المراجع والمحامل، والوسائط ووسائل التواصل. ونستحضر هنا ما قاله أدڤار موران: «من فرط تضحيتنا بالمهم في سبيل العاجل انتهينا الى نسيان استعجالية المهم». وإنّ عدم مراعاة هذا التطور، جعل معاهدنا ومدارسنا الفنية تعاني من صعوبات في التكوين وفي مواكبة الاختصاصات العالمية. بالإضافة إلى مشاكل أخرى بيداغوجية ناتجة عن معايير التوجيه التي تتطلب مراجعة بكل جدية فكما قال بيار فراكستال في دراسة سوسيولوجيا الفن، «إن ميدان الفن البصري يكوّن أحد أكبر ميادين نشاط الفكر البشري، ميدان يملك خاصيته الفريدة التي لا يستطيع أن يكون دخولها طبيعيا للجميع».
ورغم محاولة الإيهام بالاصلاح في منظومة التوجيه الجامعي، وهنا نذكر ما ورد في دليل التوجيه الجامعي لسنة 2019 من تنصيص على مستجدات في التوجيه تهم اختصاصات الفنون والإعلام والتكنولوجيا وقد وردت في الصفحة الأولى من دليل التوجيه وفي كلمة افتتاحية لوزير التعليم العالي لتلك السنة (سليم خلبوس) في النقطة الرابعة من نصه. إلا أننا لم نشهد تغييرا في سياسة التوجيه ولا نجاعة، وهذا من أهم المشاكل التي تعانيها المعاهد العليا للفنون.
إن الفنون التشكيلية والمسرحية والسينمائية والرقص والكوريغرافيا وغيرها من الفنون تحتاج تميزا، ومعاييرها يجب أن تكون أدق من المواد و الاختصاصات الأخرى، لأن الطالب الذي يدمج بها دون رغبة و استعداد منه للتكوين فيها سيفشل و سيكون مثالا سيئا لغيره من الطلبة وللمجتمع ككل، هذا ما يحدث منذ سنين، فالمعاهد العليا للفنون مليئة بالطلبة غير المهتمين بالاختصاص وغير المتحمسين للبحث فيه، مما يقودهم إلى إنهاء مرحلة التعلم فقط للحصول على شهادة هم أنفسهم لا يثمنونها (هذا طبعا دون تعميم لأن هناك من يقبل على هذه الاختصاصات بكثير من الاهتمام والحماس) لكن الأغلبية يفتقدون الايمان بالاختصاصات الفنية والتحمس لها وتكون النتيجة الحصول على خرّيجي معاهد عليا للفنون ضعيفي التكوين النظري والتطبيقي وذلك مردّه أن المجتمع والمؤسسات التعليمية الابتدائية والثانوية تصنف الفنون دائما كمواد ثانوية وأحيانا غير ضرورية، فترسخ هذه الأفكار عند مختلف الأجيال. هذا بالإضافة إلى أن العديد من المعاهد العليا في المناطق الداخلية للبلاد تعاني من عدم ملاءمتها مع محيطها كما تفتقر إلى أساتذة مختصين وإطارها تقريبا متكون من ملحقين ومتعاقدين وبعض مساعدين، وهو عامل مؤثر في جودة التكوين. دون أن ننسى طبعا عدم ملاءمة الفضاءات للاختصاصات الفنية ممّا ينفّر الطلبة ويحبط عزائم الأساتذة المختصين فتجد الأغلبية بعد تسميتهم في المناطق الداخلية يحاولون بشتى الطرق الالتحاق بالمدارس الكبرى، لأن فيها مرافق أفضل بقليل وظروفها تساعد نسبيّا على العمل مقارنة بالحالة المزرية لبعض المعاهد الأخرى.
هذه الاعتبارات أثّرت كثيرا في مآل هؤلاء الطلبة وفي آفاق تشغيلهم، فبعضهم بعد تخرجه يعيد الترسيم في تكوين جديد بحثا عن حظوظ للعمل وبعضهم يقبل بعمل بعيد عن اختصاصه، وبعض آخر يقبل بأجر ضعيف مقارنة بقيمة الشهادة العلمية المتحصل عليها (إجازة أو ماجستير، وأحيانا دكتوراه).
إن هذه الوضعية المقلقة لخريجي الفنون هي ببساطة نتيجة لضبابية الرؤية لمهيكلي مسارات التكوين الجامعي وهي مآل حتمي لسياسة الترقيع والحلول المسقطة غير المدروسة وخاصة حين لا تحترم فيها خصوصيات كلّ مجال. فالاقتصار على شبكة اختصاصات عامة جوفاء، تكتفي بمجرد تسميات شكليّة توهم بالتعدّد، لا يمكن أن تكون مسارات تكوين فني وجدّي ينفتح على التقنيات المعاصرة والمفاهيم البحثيّة الجديدة وخاصة خلق آفاق تشغيلية مختلفة، بل هي مضاعفة للعاطلين عن العمل من جهة واحباط للباحث والطالب من جهة ثانية. خاصّة حيال بعض الممارسات الفولكلورية للمسؤولين على هذه المؤسسات فمثلا حين يطلبون من طلبة المعاهد العليا للفنون ''تزويق'' الجدران وحضور الاحتفالات العامة لتنشيط الشوارع ظنا منهم أن هذا هو دور الفنّ، وجهلا منهم بأنّ خروج الفنّ إلى الشارع هو منطق وموقف جديدين للفنان الثائر على الأشكال التقليدية للفن. يقول بيكاسو في هذا السياق:»الرسم لم يخلق لتزويق الشقق، بل هو سلاح حرب ضدّ العدّو». فالسّؤال المطروح هنا: لماذا لا يرسلون طلبة الطب أو الهندسة أو الحقوق لتنشيط الشارع؟
إنّ هذا الخلط بين الإطار الأكاديمي والهوايات الفرديّة يشمل حتّى الجامعيين لذا أصبح مهمّا تذكير المسؤولين أنّ طالب الفنون هو باحث يدرس تاريخ الفنون وعلم المصطلحات والاستيتيقا والأنتروبولوجيا وغيرها من المواد النظريّة بالإضافة إلى التكوين في الورشات المختصة مما يجعل منه باحثا مبدعا وتقنيا مبدعا يفكر في تقنيته ويبتدع أساليب التعبير بها.
فالصمت اليوم على هذا المآل أصبح جريمة في حق معاهد الفنون في تونس وكلنا مسؤولون على مراجعة معايير التوجيه وتحديد عدد المؤسسات وضبطه حسب حاجات البلاد والتركيز على جودة مسارات التكوين وفتح آفاق التشغيل فيها.
فالفنون بالذات باعتبارها اختصاصات أكاديمية وإبداعيّة، يجب أن تكون منطلقا لإصلاح الفكر والذوق ولإنتاج المعنى ولاتخاذ دور الريادة في الجامعات، فالمسار الفني لا يمكن أن يتحوّل إلى مجرّد تكوين يدوي وحرفي بدون مشروع فكري ووعي حقيقي بدور المبدع والفنان في قيادة المجتمع. وما تسطيح هذا الدّور في منظومة التعليم العالي إلا دليل على تقهقر المنظومة الجامعية وتهاون أصحاب القرار في تحديد المسارات الكبرى لكلّ اختصاص. إنّ تحديد معايير التوجيه للفنون هو الخطوة الأولى للإصلاح كي لا تتحول الجامعة إلى منتج للعاطلين والمحبطين في هذه البلاد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115