التي تقيم الدليل على انعدام المهنية، وغياب ايطيقا التعامل مع مواضيع ذات صلة بأوّل حقّ طبيعي، وهو الحقّ في الحياة. فأن يستهزئ منشّط بأسباب القتل أو أن يقلّل من شأن الحدث أو أن يبرّر سبب القتل معناه ببساطة غياب الحسّ الإنساني الذي يجعلك تتفاعل مع كلّ خبر يصنّف ضمن الجرائم البشعة فلا تكتفي بالترحم على الضحية والتعاطف معها وإبراز الشفقة تجاهها بل لابدّ أن تتموقع ضمن ثقافة حقوقية تفرض عليك مراجعة الموروث الاجتماعي الثقافي الذي نشأت عليه وتغيير مواقفك وسلوكك وممارساتك بما يتلاءم مع المرجعية الحقوقية، وأن تطلّع على عدد من الدراسات الاجتماعية والثقافية والنسائية والنسوية والجندرية والقانونية وعلم الإجرام وغيرها وعليك أيضا أن تنخرط في مسار المقاومة الحقوقية لأنّك لا يمكن أن تكون صحفيا رافعا راية الدفاع عن الحق في التعبير والتفكير و...وأنت متعصب جنسيا، كارها للنساء فالحقوق لا تتجزأ والمبادئ لا تختزل.
إنّ أولى خطوة في مسار الالتزام بالمقاومة تحمّل المسؤولية: أن تكون/ي صحفيا أو إعلاميا مسؤولا ينتقي لغة الخطاب ذلك أنّ مؤسسة اللغة سلطوية بامتياز، ومن هنا كان اختيار المفردات والعبارات، في التغطية هامّا: إنّها ليست امرأة/ضحية/أمّ ...بل هي القتيلة المعنّفة وأدنى علامات الاحترام ذكر اسمها لأنّها ليست "الضحية رقم 10 في غضون السنة'' بل إنّها تحمل اسما لابد أن يُخلّد.
إنّهن رفقة / صابرين/...اللواتي يسائلن الدولة ويحرجن واضعي/ات السياسات، ويفضحن التقصير، وقصور السياسات التربوية والتعليمية والاجتماعية والإعلامية...إنّهن في التاريخ والذاكرة الجمعية حتى وإن تنكّر البعض من المسؤولية أو تجاهل أصحاب القرار الظاهرة أو أنكروا خطورتها. فأن تسمّي القتيلة معناه أن تعترف بأنّها كانت بيننا، عاشت، تألّمت، ضحكت، تعبت، صرخت، مزحت، أكلت ورقصت وشاهدت، وعشقت، وحلمت، ورغبت في ...ولكن أراد الزوج/الخطيب/الصديق مصادرة حياتها وشطب أفعالها وأقوالها وسيرتها.
لا يتسع المجال لعرض عينات من التغطية الإعلامية التونسية التي تعكس التمثلات الاجتماعية/الدينية/الرمزية، وطرائق التلقي الاجتماعي لجرائم قتل النساء وتثبت في الوقت ذاته، مدى دخلنة أغلب أهل القطاع من الرجال/النساء للصور النمطية وللأحكام التي تعتبر المرأة آثمة بالضرورة فتشيطنُ أفعالها وتموضعها في دائرة الشرور ومن ثمّة تكون التغطية الإعلامية فرصة لتبرير ما اقترفه المجرم ومحاولة لالتماس الأعذار''نعم هو قتل ولكن من أجبره على هذا الفعل؟" وبذلك تُحجب مسؤولية المجرم، ويغيّب دور البنى المنبثقة عن النظام البطريكي، وتقاطع علاقات القوة والهيمنة، ويقدّم قتل النساء على أنّه "طبيعي" أو" قضاء مقدّر ولا مهرب منه''ومن المستحيل تجنّبه، بل هو إرادة الله ولا راد لإرادته ويغدو التعاطي مع الخبر منحازا ومعبّرا عن قيم المجتمع والتمثلات السائدة فيه وأنماط العلاقات المهيمنة، وينقلب أسلوب التغطية إلى 'نقل بارد' لا روح فيه وشكلا من أشكال العنف الممارس على الأحياء والقتيلات فمنهن من 'تستحق' ومنهنّ 'من لا تستحق" الموت ...
لا ينتبه عدد من أهل القطاع إلى النتائج المترتبة عن خطاباتهم/ن غير المسؤولة والمتواطئة أو المنحازة للأيديولوجيا الذكورية والمجتمع والتقاليد والأعراف ... والمرسّخة للتمثلات والصور النمطية وخطاب الكراهية...لأنّهم يجهلون دور الإعلام في بثّ الوعي ولا يؤمنون بمسؤوليته في مناهضة العنف الممارس ضدّ الفتيات والنساء حتى وإن حضروا الورشات ودرّبوا الصحفيات/يين حول 'العنف المبني على النوع الاجتماعي' فشتان بين الفهم والالتزام ونقل المعلومات وشتان بين القناعات والاسترزاق... إن هي إلاّ فرص للاستثمار في قضايا النساء...ولا عزاء للقتيلات.