أهالي السجناء السياسيين وسياسات امتلاك الصوت

 مثّلت مرحلة الانتقال الديمقراطي بالنسبة إلى المعتقلين السياسيين

فرصة ملائمة لتأليف الروايات التي تسرد جزءا من تاريخهم أو لتوثيق سيرهم الذاتية أو الإدلاء بشهاداتهم لمن يتكفّل بالكتابة نيابة عنهم. وقد كشف هذا الإنتاج الغزير عن خصوصية التجارب السجنية التي فضحت الممارسات التي كانت سائدة في تلك الفضاءات كالتحرّش والإذلال الجنسيّ والتعذيب... وأشكال الصمود المختلفة واستراتيجيات المقاومة الفردية والجماعية .وبالاطلاع على السير الذاتية للمعتقلين السياسيين السابقين والأدبيات التي رصدت تجارب سجناء الرأي ومختلف الناشطين الحقوقيين نتفطّن إلى أهميّة الروابط العائلية والاجتماعية والأدوار التي اضطلع بها أغلب الأولياء والاقارب والأصدقاء من أجل توفير الدعم المادي والمعنوي لهؤلاء المساجين. ويمكن القول إنّ رواية أحداث زيارة الأمهات والآباء والزوجات والأبناء احتلت مكانة هامّة في سرد التجارب السجنية، وهي حكايات توثّق ما يحدث قبل الزيارة من استعدادات من أجل إعداد ''القفّة'' كالتدقيق في قائمة الممنوعات... وتليها 'محنة التنقل ' من ولاية إلى أخرى التي تمتزج فيها مشاعر الشوق بالإحساس بالقهر ... ويستمر الحديث عن" القفة" بعد خضوعها للتفتيش الدقيق والحجر على أكثر محتوياتها فتوصف "الحسرة- الغصّة في القلب'' وتغدو سياسات الرقابة المفروضة على "القفة' سياسات عقابية بامتياز لا تكتفي بحرمان السجين من متعة الأكل فقط بل إنّها تعاقب الأهل الذين 'تفننوا' في إعداد 'قفة السجين'.

وقد أثار هذا الإنتاج اهتمام التونسيين لأنّهم كانوا بحاجة ماسة إلى الاطلاع على جزء من تاريخهم ومعرفة علاقة الدولة بفئة من التونسيين الذين صمّموا على الدفاع عن آرائهم وتصوراتهم للعمل السياسيّ ومارسوا حقّهم في التعبير والتغيير. وظنّ المتابعون لهذه الكتابات أنّ الأدبيات السجنية ستتقلّص بعد انطلاق المسار الانتقاليّ. ولكن ها أنّهم يكتشفون اليوم، ديناميكية جديدة وفاعلين/ات جدد جعلوا نقل ما يجري في السجون متاحا للجمهور الذي أضحى تعلّقه بمواقع التواصل الاجتماعي يفوق اهتمامه بواجباته.

فنحن إزاء كهلات وكهول وشابّات وشبّان أحسنوا توظيف الأنترنت لصالح القضايا التي تبنّوها والتزموا بلعب دور الوساطة بين من يقبع في الداخل ومن هم في الخارج، وأصرّوا على ايصال أصوات أقربائهم الى عموم الناس ومختلف الهيئات والمنظمات ووسائل الإعلام. ولعلّ ما يسترعي الانتباه في هذا النشاط المدنيّ- السلمي- الدؤوب حضور الأبناء والأخوات (دليلة بن مبارك، مريم الزغيدي، الشواشي، الدهماني...) في مواقع التواصل من خلال نشر الفيديوهات وكتابة التدوينات وممارسة الحكي وتوثيق الوقفات والمسيرات ونقل وقائع المحاكمات وتفسير الإجراءات وشرح ما التبس فهمه وتوضيح "المغالطات'' وطرائق توظيف القوانين وبثّ الوعي بمعاناة المساجين (صحيّا ونفسيا ). يكفي أن نتابع تدوينات رملة الدهماني لنكتشف المعيش اليومي لسنية الدهماني: ما تكرهه وما يثير غضبها... هي "نشرات شبه يومية" وتواصل كثيف لا يتم من منطلق التعبير عن الحبّ ومتانة الروابط فقط بل إنّها أفعال تصدر من موقع النضال والالتزام بالقضايا السياسية وتحمّل أعباء الإخبار ومهمّة 'الإعلام'...لم يخضع هؤلاء لدورات تدريبية 'بتمويل أجنبيّ' لاكتساب مهارة التواصل التكنلوجي ولم يطلعوا على تجارب النشاطية ...هي تجارب الحياة التي دفعت بهم إلى الركح ، هو مناخ التنشئة على المبادئ والقيم الذي يحرّكهم ...هو تاريخ النضال العائلي والمشترك ...هو الحسّ المواطني المسؤول.

تلتقي هذه الأصوات على اختلاف مرجعياتها وتجاربها وانتماءاتها واختلاف أعمار أصحابها وجندرهم في التصميم على توثيق ما يحدث داخل السجن وخارجه، وفي بناء جسر بين السجين والجمهور وفي اكتساب سلطة تسمح لهم/نّ بالتحكّم في سردية تشكيل الرأي العامّ، وهي مقاومه تثبت التعالق بين السياسيّ والقضائي والقانونيّ واليوميّ والنضالي والانسانيّ.وعلى هذا الأساس لم يعد سجين الرأي من يمتلك الصوت والمكلّف الوحيد بالسرد والكتابة وتقديم الشهادة...استبقه من هم بالخارج فنقلوا الأخبار وحوّلوا المسموع إلى نصّ مكتوب أو نصّ مرئيّ...ووثّقوا التجارب وأرشفوا الأحداث والنصوص وحفظوا الذاكرة وساهموا في صناعتها فاشتغلوا بالتأريخ لمحطّة من محطات تونس.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115