جولة تكثر فيها الالغاز وفيها يطلب منه التركيز الذهني لتفكيك شيفرات الرواية المسماة بعنوان غريب هو الآخر.
"فج الضباب" رواية صادرة عن "بوب ليبريس"في اللعام 2023، صممت غلافها هناء الوسلاتي، الرواية تجربة فلسفية وإبداعية يخوضها كاتب مولع بالتجديد في أنماطه الإبداعية، و"فج الضباب" نص يرشح فلسفة وبحثا وسلاسة لغوية.
متعة العجائبي في تماهيه مع الواقعي
"فج الضباب" اسم غريب يثير حيرة القارئ، منذ العنوان يجبر الزناد قارئه على المسك بتفاصيل كل الرواية، يشوقه ويدفعه الى إتمام القراءة ومعرفة سبب اختيار كلمة "فج الضباب" عنوانا للرواية.
العنوان هو عتبة الرواية، منذ العنوان يشوق الزناد قارئه، العنوان يتماهى مع صورة الغلاف، طريق طويلة، اشجار متشابكة، ملامح برق وظلام دامس في اخر الطريق، صورة تثير الخوف والسؤال والصورة تتماهى مع العنوان ليكونا زاد القارئ لمزيد البحث وفك شيفرة العنوان العجيب، "الفج" هو المكان المظلم عادة،
"فج الضباب" رواية التشويق والغموض والبحث، حكايتها تبدو للوهلة الأولى بسيطة، طبيب جراح وزوجته، منعم وغالية يتجهان نحو منزل العائلة لكنهما يختفيان فجأة، اختفاؤها سيكون اللغز المثير، لغز تحاول جميع الشخصيات فكه وإيجادهما وكلّ له سببه في البحث.
طبيب جراح ومعارض سياسي، يكتب في جريدة معارضة بإمضائه دون خوف إيمانا منه بأن للمثقف دور اجتماعي وتوعوي يجب أن يقوم به تجاه شعبه "لتحسنوا الدفاع وجب ان تحسنوا الفهم، ولتحسنوا الفهم وجب ان تحسنوا الإصغاء والإنصات، تصغون الى خصومكم لتفهموهم فتصيبوا منهم المطعن من مداخل الضعف ومواطن الخلل في الحجة والبراهين، انصتوا تنجحوا في العمل وفي الحياة" يختفي دون سابق إنذار فيتحفّز الجميع للبحث وكل يبحث عن المفقودين لسبب يهمّه.
تتداخل الأحداث وتتشابك القضايا، فيطرح الاجتماعي من خلال علاقة الجيرة القوية بين "غالية" وجارتها "رحاب" قيم انسانية اصبحت مفقودة في الوقت الحالي اصرّ الزناد على ابرازها في روايته، ويطرح الجانب التربوي من خلال شخصية الطفل "وليد" وإصراره على النجاح والتميز الدراسي ويبرز الكاتب قيمة العلم والمعرفة في تكوين الشخصية، يتطرق الى الجانب النقابي وقدرة النقابيين على ايصال اصوات الكادحين رغم تضيقات النظام عبر شخصية "احمد المحامي"،كما تناول الصراع بين المواطنين والنظام من خلال ثنائية "مواطن" و"رجل الامن" فالزناد ماهر في تطويع القضايا لصالح عالمه الروائي، يقحم القارئ في متاهات اللغة وخبايا الافكار المتعددة، يقدم له سلسلة من الحلول على ألغازه الكثيرة فيصنع عالما روائيا حقيقيا وعجائبيا في الوقت ذاته.
الرواية دفاع عن القضايا الكونية
يبدع الزناد في ملامسة اللغة واستشراف خبايا قلب القارئ، يعرف جيدا معنى المتعة الروائية، يغازل قارئه فيحمله الى قصة حب ممتعة تجمع بين غالية ومنعم، لقاء بين زوجين أثناء إعداد الطعام وقراءة الجريدة والتباحث في مستقبل الابن "وليد"، قصة حبّ تزرع بذورها في الطفل فتصبح شخصيته اشد قوة، التفاصيل يصنع منها الزناد عالمه الخاص جدا في الكتابة، يبحر بقارئه في بحر من المشاعر والعلاقات الإنسانية الجميلة ليزرع فيه قيمة الحب والحياة.
يحضر المكان بقوة في عوالم الزناد الابداعية، المكان عادة محور الأحداث ومحرّكها، المكان ليس ثابتا بل متحركا كما الشخصيات، "فج الضباب" عنوان العمل هو اسم لمكان، يتخيله الكاتب في الطريق من العاصمة الى الشمال، حيث الغابة والشلال يوجد "الفج" ساحرا، صاخبا، باعثا للحياة والموت معا، وليضفي مصداقية للنص يختار الزناد أسماء لاماكن بعضها واقعي مثل العاصمة، الفحص، بير مشارقة ورمال بنزرت و الطريق السريعة تونس الحمامات، ويبدع في وصف فضاءات وأمكنة متخيلة فتكون "بني باسط" القرية التي ولد فيها منعم الباسطي الطبيب الجراح، تلك القرية الهادئة المتميزة بطيبة أهلها يختارها الكاتب فضاء لبدايات الحلم دوما.
المكان لدى الزناد فضاء مطلق للحرية وتشكيل الذات، يبدع في التجوال بقارئ كتابه ويحمله الى عوالم حقيقية واخرى عجائبية، له طريقة فريدة في المزج بين حكاية متوقعة واخرى ينحتها في خياله كطفل يلاعب أفكاره المختلفة، فتراه يقدم شيفراته السياسية عبر الحكايات العجائبية مثل قصة "الامير حسام" الذي عشقته حورية البحر وجعل الأمير مسكونا بالعدل ويرفض ان يوجد في مملكته سراق "ان قبض عليكم هنا مرة اخرى سوف تشنقون، لا مكان للصوص في بلاد يحكمها الامير حسام الملك" بينما في الواقع يوجد المئات من اللصوص زمن احداث الرواية (وقت حكم زين العابدين بن علي) وزمن إصدار الرواية (العام 2022).
المكان وسيلة الكاتب للدجاع عن قضايا تهم المواطن التونسي والعالمي وهي "الماء"، فالماء يسكن الزناد في كل كتاباته ومسالة العطش يتناولها في كل كتاباته تقريبا من "زاما" الى "عطش اخضر" (مدينة المرايا) الى "فج الضباب" عنوانا ومكانا وبحيرة "لقد تعبنا من شحّ المياه، كانت هي توفر لنا الماء لسقاية الماشية على الاقل، خلال فصل الصيف، والان نضطر الى قطع الكيلومترات في المنحدر عند الذهاب وقطعها صعودا، عندما تعود البحيرة، تعود الجنة من جديد"، وطرح مسالة العطش وانتشار الجفاف من القضايا الاساسية التي يدافع عنها الزناد جعلها في روايته اكبر الغاز واكثر الشيفرات غموضا.
"فج الضباب" الرواية، اللغز، تجربة بحث وتشويق يعيشها القارئ منذ تقديم الكتاب "في البحث لذة لا تقاوم"، بحث وليد عن والديه لمعرفة بقية قصة "الملك حسام" وبحث النظام السياسي عن الطبيب المختفي حتى لا يتّهم بالديكتاتورية وبحث الاخ عن اخيه لاتمام وصية الام وبحث الرفيق عن رفيقه في النضال لمواصلة المشوار، كل يمارس "البحث" بطريقته المختلفة والخاصة جدا ، بحث يجمع بين الواقعي والفلسفي، فالفلسفة مدخل لفهم الواقع ووسيلة لتفكيك الغاز لزهر الزناد الكثيرة وفخاخه الموضوعة بين الكلمات في رواية ممتعة ومشوّقة.
