مسرحية "هُم" لأسماء الهوري من المغرب: حرية الأسئلة .. وعجز الأجوبة

هُم" ليست مسرحية للاستهلاك السريع بل هي

تجربة فنية تراهن على الحسّ الفلسفي للشعر وعلى إمكانات الجسد في ترجمة ما يعجز عنه الكلام. وقد قدّم "مسرح أنفاس" المغربي عرضه الجديد "هُم" ضمن المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية، بتوقيع المخرجة أسماء الهوري عن نص للشاعر عبد الله زريقة. وقد العرض جاء محمّلا بطاقة شعرية وجمالية جعلت من الخشبة فضاءً للتأمل في أسئلة الكتابة، وفي حرية الذات بين رغبات الأنا وإكراهات الـ"هم" والعبور.

أما باب أحمر مغلق تدور مشاهد "هم". ويبقى ذاك الباب مغلقا إلى المشهد الأخير من المسرحية، حيث يُفتح فجأة على مصراعيه كاشفا عن بصيص ضوء وكأنه وميض أمل يتسلل من العتمة. فتنفرج معه أسارير الجمهور، ويصفق الجمهور طويلا لهذا العرض غير السهل.
الشعر من الورق إلى الركح

ماذا سأقول؟ وهل لدي شيء لأقوله؟ كل ما أعرفه هو اليوم الذي قررت فيه أن انزع اسمي وأبعده عن جسدي، كل ما أعرفه إن أردت محو اسمي، محو جسدي؟ هي أسئلة يدور في فلكها عرض "هم" الذي يحمل توقيع المخرجة أسماء هوري عن نص للشاعر المغربي عبد الله زريقة، مما جعله يلعب على خشبة مسرحية مختلفة وغير معتادة، هي خشبة يلتقي فيها الشعر بالمسرح، بالأسئلة الفلسفية ليصنعوا معا نسيجا دراميا يقوم على السؤال أكثر مما يقوم على الحكاية.
منذ اللحظة الأولى، يعلن العرض عن نفسه كتجربة فكرية وجمالية تتحدى توقعات الجمهور، وتعيد الاعتبار للغة حين تصبح مادّة للعبور وللجسد حين يتحوّل إلى سجل للقلق الإنساني.
وقد اختارت أسماء هوري أن تلتزم بالنص الأصلي التزاما كاملا، دون أي تعديل، وهو قرار يكشف جرأة واضحة في التعامل مع الكتابة الشعرية الكثيفة والوجودية للشاعر عبد الله زريقة. و"هم" لا تسعى إلى تفسير النص أو تبسيطه، بل إلى نقله فوق الخشبة كما هو بكل ما فيه من دسامة كتلة لغوية وفكرية تشتغل على حدود المعنى، وتدفع الممثلين إلى أداء يختبر طاقتهم الجسدية والنفسية.
الجسد… أداة كتابة
عزف النص في مسرحية "هم" الإيقاع، وتحكّم في الأداء، وطرح الأسئلة.. كما ورطّ الجمهور في مواجهة مباشرة مع فكرة العجز، العجز عن الفعل، وعن الكتابة، عن الفهم أحيانا.
في تناغم وانسجام، يشد أبطال العرض الأربعة: رجلان وامرأتان، الانتباه في إثارة للاستحسان والإعجاب. ففي مشاهد يلتحمون ويتكلمون ويتحركون معا في ترابط ميكانيكي كأنهم جسدا واحدا، وفي مشاهد أخرى ينفصلون ويتباعدون ليحدّث كل واحد منهم عن نفسه، عن إحساسه، عن خوفه...
قدّمت الشخصيات الأربع: زينب العالجي، ومحمد شهير، وهاجر الشركي، وعبد الرحيم التميمي أداءً جسديا مكثفا اعتمد على الحركة المستمرة وعلى الانفعال النفسي والجسدي في تعبير فني مبهر عن معنى العجز الذي يناقشه النص الشعري قبل أن يتحول إلى عرض مسرحي، إنه عجز الإنسان عن الفعل والكتابة أمام فداحة ما يعيشه. فكانت المقاومة شعار الجسد وسلاحه من خلال مواجهة الصمت بالكلام، والاستسلام بالانتفاضة، والموت بالحياة.
يبدو الجسد هنا وكأنه يحاول كتابة نصّ مواز، نصّ يولد من العرق والنبض، لا من الكلمات فقط. وقد منح الأداء شبه الكورالي للعمل بُعدا جمعيا للعرض، حيث تصبح "هُم" أكثر من ضمير… إنها حالة وجودية مشتركة.
السينوغرافيا والموسيقى… طبقات إضافية للسؤال
على ركح شبه فارغ يستند إلى جدار خلفي ببوّابة حمراء مغلقة، وعدد محدود من الكراسي، كانت السينوغرافيا التي صمّمها أمين بودريقة واحدة من أكثر عناصر العرض دقّة وفاعلية.
تماما كالنص الشعر الوجودي وأداء الممثلين الإشكالي، ساهمت السينوغرافيا في تأكيد معنى المتاهة النفسية. فالكراسي اتخذت علامات رمزية جعلها تتحوّل من دعم إلى عائق، من راحة إلى قلق، من سكون إلى عبء.
أما الجدار الخلفي على ما يبدو عليه من صلابته، فإنه يشكّل حدّا غير مرئي يفصل الداخل عن الخارج، الذات عن "هُم"، الجوابعن السؤال. إنه جدار يذكّر بأن الحركة الجذرية قد تحدث داخل مكان ضيق، وأنّ الثورة الحقيقية قد تندلع داخل النفس قبل الخارج.
كنداء خفي أو جرس إنذار، خلقت الموسيقى الحيّة التي أشرف على تنفيذها رشيد البرومي إحساسا بأنّ هناك حضورا غامضا يراقب الشخصيات أو يستدعيها للمساءلة عن الذي كان وعن الذي سيكون.
لا يُقدّم عرض "هم" إجابات جاهزة، ولا يهدف إلى الإمتاع الخفيف. إنه ينتمي إلى ذلك المسرح الذي لا يُطمئن المشاهد، بل يضعه على حافة المعنى. وإن لم يحظ العرض بالتتويج في اختتام أيام قرطاج المسرحية ، فإنّه من العروض التي ستبقى في البال لأنه غامر في حمل الشعر إلى الخشبة من دون خوف، وأجبر الجسد على المجازفة في تبني نص كثيف المبنى والمعنى ، وحوّل الركح إلى مرآة مقلقة تعكس هشاشة الإنسان أمام ما يجري حوله. في "هم" قدّم مسرح أنفاس عرضا يؤكد أن المسرح يمكن أن يظل مكانا للأسئلة الكبرى، مهما تغيّرت الأزمنة.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115