حدود غير معلنة ومعادلات جديدة بقوة السلاح مرحلة جديدة في الصراع السوري - الإسرائيلي ؟

في تطور لافت يحمل دلالات إستراتيجية عميقة

بدأت إسرائيل فعليا بترسيم واقع ميداني جديد في الجنوب السوري، من خلال عزل المناطق التي سيطر عليها جيشها منذ ديسمبر الماضي، وفرض معادلة جغرافية-أمنية مغايرة لما كان سائدا في العقود السابقة. وتأتي هذه الخطوة في توقيت بالغ الحساسية على المستويين الإقليمي والدولي، وتحمل إشارات واضحة إلى نوايا تل أبيب في ما يتعلق بمستقبل الجولان وما بعده.

وبدأت التحركات لحكومة الاحتلال الإسرائيلية على الأرض خلال الأيام الماضية بإجراءات لوجيستية وعسكرية تمثلت في قطع الطرق التي تربط بين القرى والبلدات الواقعة ضمن ما تُسمى المنطقة العازلة – وهي مساحات واسعة كانت حتى وقت قريب تشهد توازنا حذرا – والقرى الأخرى في العمق السوري. وقد صاحب هذه الإجراءات إنشاء سواتر ترابية عالية ونقاط مراقبة عسكرية، بهدف فصل تلك المناطق عن باقي المحافظات السورية المجاورة وفق تقارير إعلامية.
وبحسب مصادر محلية وتقارير إعلامية ، فإن الآليات الإسرائيلية، المدعومة بوحدات هندسية وعسكرية متقدمة، كثفت من عملياتها، ما يشير إلى تصميم صهيوين على فرض حدود أمر واقع تمهيدا لتحويل الوضع الميداني إلى معطى سياسي دائم.
الواقع الجديد
ووفق مراقبين تكشف المعطيات الميدانية أن هذا التحرك الصهيوني يأتي عقب فراغ سياسي وأمني نجم عن انهيار النظام السوري في مناطق الجنوب نهاية العام الماضي، في تطور شكل نقطة تحول في المعادلة الإقليمية. في ظل هذا الانهيار، سارع جيش الإحتلال الإسرائيلي إلى ملء الفراغ من خلال عمليات اقتحام، انتشار عسكري واسع، وتأسيس قواعد ثابتة في مواقع إستراتيجية، لاسيما في محيط ريف القنيطرة ودرعا. وبحسب ما تم توثيقه، فقد أنشأ جيش الإحتلال الإسرائيلي منذ ديسمبر وحتى مطلع جويلية ما لا يقل عن 13 قاعدة عسكرية في الجنوب السوري، كان آخرها القاعدة التي أُقيمت في تل أحمر الشرقي، إلى جانب القاعدة السابقة في تل أحمر الغربي. ويبدو أن هذه القواعد لا تقتصر على البعد الأمني، بل تؤسس لمنظومة تحكم لوجستية وعسكرية متكاملة، تخدم مشروعا طويل الأمد لإعادة رسم الخريطة الحدودية بين سوريا و الكيان الصهيوني.
الإستراتيجية الإسرائيلية
على مدار عقود، اعتمد الإحتلال الإسرائيلي إستراتيجية الردع والدفاع على جبهة الجنوب السوري، إلا أن المرحلة الراهنة تشير إلى تحوّل نوعي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. فهذا التوجه الجديد ينبع من قناعة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بأن أي تسوية سياسية في سوريا مستقبلا يجب أن تُبنى على أمر واقع ميداني تفرضه تل أبيب، بما يضمن مصالحها الأمنية ويُبعد أي تهديد محتمل يستهدفها.
ولا يُخفي المسؤولون الإسرائيليون رغبتهم في تحصين جبهة الجنوب، عبر إنشاء طوق دفاعي متقدم داخل الأراضي السورية، يسمح بالتحكم بالمجال الحيوي جنوب دمشق، وربما حتى التأثير على المعادلات الداخلية السورية مستقبلا. في المقابل، يعيش المدنيون السوريون في القرى والبلدات التي دخلها جيش الإحتلال الإسرائيلي تحت وطأة تضييق متزايد. فقد وثقت تقارير محلية حالات نزوح جماعي، ناجمة عن الاقتحامات المتكررة التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي بذريعة ومزاعم البحث عن أسلحة أو عناصر إرهابية كما تحدثت مصادر عن تنفيذ عمليات هدم طالت منازل عشرات العائلات، كان آخرها في بلدة الحميدية في ريف القنيطرة، حيث جرى تدمير 16 منزلا بزعم قربها من منشآت عسكرية إسرائيلية.
قراءة في الرسائل السياسية والعسكرية
ووفق مراقبين تسعى إسرائيل من خلال هذا التحرك إلى إرسال رسائل متعددة الاتجاهات أولها للداخل الإسرائيلي مفادها أن المؤسسة الأمنية تُمسك بزمام المبادرة، وتحمي حدودها المزعومة من تهديدات متوقعة في جنوب سوريا. ثانيا للجوار العربي بأن الانخراط في الصراعات الداخلية يُنتج فراغا تملؤه تل أبيب دون تردد، وهو ما قد يتكرر في جبهات أخرى. ثالثا للقوى الدولية مفادها أيضا أن جنوب سوريا بات ورقة بيد إسرائيل ومن غير الممكن التفاوض على مستقبل سوريا دون مراعاة مصالحها هناك.
في هذا السياق يرى خبراء أنه لا يمكن عزل التحرك الإسرائيلي عن المناخ الجيوسياسي الأوسع. فالمشهد الإقليمي يشهد حالة من الانكفاء العربي عن الملف السوري، وتراجع واضح في الحضور الروسي في الجنوب بعد انشغال موسكو بجبهات أخرى. وفي الوقت ذاته، تغيب الولايات المتحدة عن الملف السوري إلا في نطاقات محدودة، ما يفتح لإسرائيل نافذة مناورة واسعة.وفي ضوء ذلك، تبدو تل أبيب كمن يستغل اللحظة التاريخية لإعادة تشكيل الخارطة الجغرافية والأمنية على حدودها الشمالية، دون كثير من الاعتراضات الدولية أو الإقليمية.
ما يجري في الجنوب السوري ليس مجرد عملية عسكرية محدودة، بل يمثل بداية مرحلة جديدة في الصراع السوري – الإسرائيلي، تُرسم خلالها حدود غير معلنة، وتُفرض معادلات جديدة بقوة السلاح والوقائع الميدانية. ولعل أخطر ما في الأمر هو أن هذا التحول يجري وسط صمت عربي ودولي شبه كامل، ما يعزز مخاوف من أن نكون أمام احتلال ناعم يتسلل من تحت أنقاض الأزمة السورية، ويكرّس نفسه كأمر واقع قد يصعب التراجع عنه مستقبلا.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115