رحل المخرج والباحث السينمائي علي العبيدي بعد صراع مع المرض، مخلّفا صمتا عميقا يشبه أفلامه، تلك التي لا ترفع صوتها، بل تترك المعنى يتسلل ببطء، مثل ذكرى جميلة تمرّ على ذاكرة متعبة.
وُلد علي العبيدي في 10 فيفري 1950 في الرديف، في قلب الحوض المنجمي. في تلك البلدة المنجمية تشكّلت ملامح وعيه الأول في تأثر ببيئة اجتماعية صلبة ومشحونة بروح والمقاومة والكرامة.
أستاذ الجمال الذي كتب السينما على مهل
بعد أن حمل في حقيبته الوطن قضية ورائحة وحنينا، شدّ الرحال إلى رومانيا ليدرس السينما ويتحصّل على شهادة الماجستير في صناعة الأفلام من بوخارست، حيث تعمّق في دراسة المسرح والسرد البصري والنقد الفني .
حين عاد إلى تونس، لم يندمج في السائد، بل اختار الهامش عن وعي. علّم السينما في الجامعات التونسية منذ سنة 1981، واشتغل على علم الجمال وتحليل النصوص والكتابة السينمائية، وأثّر في أجيال من الطلبة، لا بالتلقين، بل بالحوار، وبالأسئلة التي لا تنتهي.
لكن العبيدي، قبل أن يكون معلّما، كان فنانا. وقدّم على امتداد مسيرته سبعة أفلام تسير على خيط دقيق بين التوثيق والشعر، بين الالتزام والخيال، بين حكاية الأرض وصورة الروح.
أفلامه القصيرة كانت بمثابة رسائل منسية يعيدها إلى الواجهة. فكان فيلم "تاريخ التاريخ" (1982)، يعيد مساءلة من يملك سلطة كتابة الماضي. وكان فيلم "رسالة إلى بشير خريف" 1986)، تحية خجولة وعميقة لأدب الهوامش. أما فيلم "سينما قليبية أو السينما البديلة" (1986)، تأمل بصري في سينما المقاومة. وفي "كان ما كان" (1992)، استعادة للتراث الشفوي بلغة سينمائية حديثة.
أما أفلامه الطويلة، فأشهرها كان "برق الليل" (1990)، ينحتُ العبيدي قصيدة حزينة عن الإنسان حين يواجه القمع والصمت، في سردية مكثفة تلامس وجع الداخل أكثر مما تصف الخارج.
وفي "الرديف 54" (1997)، يعود إلى منبته ليقدّم شهادة بصرية عن انتفاضة الحوض المنجمي. لم يكن الفيلم مجرد تأريخ، بل محاكمة ناعمة للذاكرة الوطنية، سردها بنَفَس شاعر وموقف سياسي نزيه.
أما "اللمبارة" (2007)، فمثلت ربما ذروة نضجه الفني من خلال طرح رمزي غامض، فيه امرأة تتنقّل بين الأزمنة، وتحمل رمزية الوطن، والهوية، والحيرة... فيلم يراوغ المعنى، ويترك المُشاهد في مواجهة ذاته.
التزام ثقافي وانتماء سياسي
بين الكلمة والصورة... وبين الفن والفكر لم يقتصر العبيدي على الصورة، بل صدرت له دراستان نقديتان: "كتابات عن النقد والمسرح التونسي" (1992)، و"فيما يتعلق… أم البحث عن الروح الخفية" (2004).
قبل رحيله، ترك علي العبيدي مخطوطة غير منشورة بعنوان "من كلمة إلى صورة"، حاول فيها فكّ الاشتباك بين الأدب والسينما، بين الحرف والضوء.
في الشأن الوطني والسياسي لم يكن علي العبيدي محايدا بل كان من مناضلي الحزب الشيوعي التونسي في الثمانينات، وعضوا فاعلا في جمعيات السينما، مؤمنا بدور الثقافة في إعادة تشكيل المجتمع ومقاومة الرداءة.
رحل علي العبيدي ، لكنه ترك وراءه أفلاما تنبض بالحياة، وسؤلا مفتوحا: هل ما زالت السينما التونسية قادرة على الإصغاء للهوامش؟
ولأن الأثر لا يموت. سيظل علي العبيدي حيّا، في عنوان فيلم، في نص من كتاب، وفي عين طالب لم ينسَ أول درس عن الجمال.