المطالب الشعبية. لكن بعد أكثر من عقد على تلك اللحظة المفصلية، تراجعت الآمال وتحول الحق إلى امتياز، وتحولت المرافق الصحية العمومية إلى مرآة عاكسة لخيبات الثورة.
ففي الوقت الذي تحظى فيه النخب بخدمات طبية رفيعة في المستشفى العسكري والمصحات الخاصة، يُترك عموم المواطنين لمصيرهم في مستشفيات متهالكة، ومراكز صحية مغلقة أو شبه مشلولة، في مشهد يعكس تراجع الدولة أمام منطق السوق.
منظومة مترهّلة وإصلاحات وهمية
منذ 2011، تعاقب على وزارة الصحة 16 وزيرًا، دون أن يفضي ذلك إلى استقرار أو إصلاح حقيقي. تغرق الإدارة الصحية في البيروقراطية وتتنازعها المصالح، بينما تفتقر البلاد إلى رؤية استراتيجية واضحة تُعطي الأولوية للوقاية والعدالة الاجتماعية.
المستشفيات العمومية تعمل اليوم بأقل من نصف طاقتها. مراكز الصحة الأساسية تتجاوز 2300 مركز، كثير منها مغلق أو يعاني من نقص حاد في التجهيزات والموارد. أما مجانية العلاج، فقد أصبحت من الماضي، بعدما تحوّل التداوي إلى عبء مالي ثقيل على المواطن.
بين تراجع الدولة وهيمنة السوق
لم تعد أزمة الصحة في تونس مجرد مسألة تقنية، بل هي نتيجة خيارات اقتصادية وإيديولوجية واضحة. فمنذ التسعينات، فُرض نموذج ليبرالي حوّل الحق في العلاج إلى سلعة تُباع وتشترى.
وفي 2023، لم تتجاوز ميزانية الصحة 6.7% من الناتج المحلي الخام، أي أقل من المعدلات الدنيا التي توصي بها منظمة الصحة العالمية (10%). كما لم تتعدّ مساهمة الدولة في الإنفاق الصحي 2.1%، في حين يتحمّل المواطن من جيبه حوالي 40% من كلفة العلاج.
نزيف الأطباء وخراب الجهات
رغم تخرج نحو 1900 طبيب سنويًا، فإن 40% منهم يهاجرون مباشرة. وخلال عشر سنوات فقط، غادر أكثر من 5000 طبيب تونسي البلاد، بحثًا عن ظروف أفضل.
تُهمَّش المستشفيات المحلية، وتُضخ الموارد في مشاريع ضخمة غير مجدية، بينما تظلّ المناطق الداخلية دون كفاءات أو تجهيزات. ففي عام 2023، بلغ عدد الأطباء 31 لكل 10 آلاف ساكن في العاصمة، مقابل 4.2 في القصرين و3.9 في سيدي بوزيد.
خوصصة بلا حسيب ومؤسسات تنهار
القطاع العمومي يواجه أزمة تمويل خانقة:
- 80% من المستشفيات العمومية تعاني من عجز مالي مزمن.
- 70% من تجهيزاتها غير صالحة للاستعمال.
- صندوق التأمين على المرض عاجز عن الإيفاء بتعهداته.
في المقابل، تشهد المصحات الخاصة، المتركزة في الساحل والمدن الكبرى، ازدهارًا مدعومًا بهجرة الأطباء من القطاع العمومي. أما صندوق دعم الصحة المموّل من القطاع الخاص، فلا يخضع لأي رقابة جادة أو تقييم شفاف. النتيجة: تعمّق الفجوة بين الجهات، وانهيار تدريجي لمنظومة الرعاية الأساسية.
الوقاية: الحلقة الغائبة في السياسات الصحية
رغم أن الدراسات تؤكد أن كل دينار يُستثمر في الوقاية يعود بـ14 دينارًا من العائدات الصحية والاجتماعية، إلا أن الدولة تواصل تهميش هذا الجانب الحيوي. فقد تراجعت نسبة تغطية التلقيح للأطفال من 96% (2015) إلى 81% (2023)، فيما لم تخضع أكثر من 70% من النساء فوق الأربعين لأي فحص للثدي خلال السنوات الخمس الأخيرة.
من أجل نظام صحي واحد وعادل
لا يمكن أن تقوم دولة واحدة على منظومات صحية متوازية وغير متساوية. إن تنوع الأنظمة بين العام، والخاص، والعسكري، وصندوق التأمين، يكرّس التفاوتات ويشتت الجهود. الدولة مطالبة باستعادة دورها كمنظّم ومراقب للقطاع الصحي، ووضع سياسة وطنية موحّدة تضمن الإنصاف وتعيد الاعتبار للقطاع العمومي.
خارطة طريق للإصلاح: 12 أولوية عاجلة
1. إرساء حوكمة رشيدة وإدارة محترفة للقطاع الصحي.
2. رفع ميزانية الصحة إلى 10% من الناتج المحلي عبر إصلاح جبائي عادل.
3. توحيد قيادة المنظومة بين وزارة الصحة وCNAM.
4. مراجعة إصلاح 1991 الخاص بالمستشفيات.
5. إعادة توزيع الموارد البشرية والمادية بشكل عادل جغرافيًا.
6. تقوية المستشفيات المحلية وتخفيف التركيز على المشاريع الضخمة.
7. تحديث البنية التحتية وتعميم الرقمنة والملف الطبي الموحّد.
8. تحفيز العاملين في القطاع وتحسين أوضاعهم المهنية.
9. حماية حرية المريض في اختيار المؤسسة الصحية.
10. تنظيم العلاقة بين القطاعين العام والخاص بوضوح.
11. إخضاع القطاع الخاص للشفافية والرقابة المالية.
12. تفعيل سياسات وقائية فعالة في الأمراض المزمنة والكشف المبكر.
الحق في الصحة: مسؤولية سياسية وأخلاقية
إن استعادة الحق في الصحة ليس مطلبًا تقنيًا أو إصلاحيًا فحسب، بل هو معركة سياسية وأخلاقية بامتياز. هو حق أساسي في كل دستور ديمقراطي، وركيزة للعدالة الاجتماعية، وشرط لبناء مجتمع أكثر تماسكًا وإنصافًا.
تونس بحاجة اليوم إلى شجاعة سياسية تعيد الاعتبار للقطاع العمومي، وتعيد بناء منظومة صحية متماسكة، عادلة، وفاعلة. فالصحة ليست رفاهية، بل عنوان للكرامة، وجسر نحو مجتمع يُنصف الجميع دون تمييز.