بعد أن تم إسقاط حكومة ميشال بارنيه يوم 4 ديسمبر إثر تحالف اليسار واليمين المتطرف. ويخسر هكذا إيمانويل ماكرون رهانه الثاني بعد أن فشل في الحصول في 7 جويلية 2024 على أغلبية برلمانية إثر حل الجمعية الوطنية يوم 9 جوان. البرلمان المنتخب والذي لا يمكن له حله مرة ثانية قبل جوان 2025 يبقى منقسما إلى ثلاث كتل كبرى لم تتمكن فيما بينها من تشكيل أغلبية حكم. وتبقى فرنسا مهددة فقدان الحكومة وبدون ميزانية للعام المقبل.
ترجع إذا المبادرة إلى ماكرون الوحيد دستوريا المخول له تعيين وزير أول جديد. لكن هذه المرة ليست نقطة الصفر التي أخذ فيها الرئيس وقتا لاختبار شخصية توافقية للمرحلة. الوقت البرلماني يكاد ينتهي قبل اعتماد ميزانية للعام المقبل. لذلك تعالت الأصوات، وفي مقدمتها رئيسة البرلمان يائل برون بيفي، لتناشده بالإسراع في تعيين شخصية جديدة لتشكيل الحكومة. من الواضح اليوم أكثر من الماضي أن حزب "التجمع الوطني" المتطرف بزعامة مارين لوبان أصبح البوصلة في الحياة البرلمانية الفرنسية وأن سبل الخروج من الأزمة لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار قدرته على إفشال مخططات قصر الإليزيه.
تحركات وتململ
بدأت التحركات في مختلف الصفوف السياسية المشاركة في الاقتراع مباشرة بعد الإعلان الرسمي عن إسقاط حكومة بارنيه. من ذلك أن قدم أوليفيه فور السكرتير الأول للحزب الاشتراكي مساء 4 ديسمبر في حوار بث على التلفزيون العمومي أفكارا جديدة للخروج من الأزمة تختلف على المبادئ العامة المعلنة من قبل "الجبهة الشعبية الجديدة" التي ينتمي إليها. ثلاث محاور عددها أوليفيه فور تتعلق بنيته البحث عن، أولا، "توافق" حول أرضية تشريعية تمنع فرضية استخدام البند 49-3 الدستوري ولائحة لوم. ثانيا ركز على "استراتيجية تمكن اليسار من المشاركة في الحكم. وثالثا رفض فكرة استقالة الرئيس ماكرون أو عزله، وهي الفكرة الأساسية لجون لوك ميلونشون. نفس الفكرة التي عبر عنها إريك جادو أحد زعماء الخضر. وركز إوليفيه فور على ضرورة احترام صوت الفرنسيين الذي "قال إن اليسار ليست له أغلبية" وأن ذلك يحتم البحث عن "توافقات".
من ناحيتها عبرت يائل برون بيفي رئيسة البرلمان والمنتمية للشق الرئاسي عن نفس الفكرة. وذهبت إلى أبعد من ذلك معتبرة، في حديثها مع إذاعة "فرنسا الدولية" ، أنها ترفض التعامل مع المتطرفين وأنها تختار "التفتح على الاشتراكيين الديمقراطيين" في إشارة على الحزب الاشتراكي. وأكدت أنها عبرت على هذه الفكرة من قبل للرئيس ماكرون وأنها سوف تعيدها من جديد في لقائها المبرمج معه. نفس الموقف ردده سيباستيان لوكورنو وزير الدفاع، الشخصية المقربة من الرئيس ماكرون، الذي صرح بوضوح أنه "من الضروري القيام بكل خطوة تبعد الحزب الاشتراكي عن "فرنسا الأبية" ومد اليد إلى اليسار الذي شارك في الحكم".
في الشق المقابل، رفض زعماء "فرنسا الأبية" أي تعيين لشخصية خارجة عن "الجبهة الشعبية الجديدة" بما في ذلك شخصية تابعة للشق الرئاسي. أما مارين لوبان فلم تتبن فكرة استقالة ماكرون وطالبت بمشاركة كل القوى السياسية الممثلة في البرلمان من أجل التوصل إلى اتفاق حول ميزانية جديدة بدون الخوض في مسألة تعيين رئيس الحكومة التي اعتبرت انه من مشمولات رئيس الدولة.وهو ما يفسر الضبابية التي يعيشها اليمين المتطرف الذي كان حكما في تعيين ميشال بارنيه في شهر سبتمبر وقاضيا على حكومته في 4 ديسمبر.
رهانات المستقبل القريب
وإن أصبح تعيين رئيس حكومة جديد من الضروريات الآنية فإن رهانات المستقبل القريب أصبحت تشكل عقبة أمام أي حكومة. مباشرة بعد سقوط الحكومة أعلنت وكالة "موديز" أن "هذا الوضع سلبي بالنسبة للاقتراض". وهو ما يؤكد ارتفاع هامش الفائدة على مستوى الاقتراض الدولي الذي فاق نسبة اليونان وما يشير إلى صعوبة التداين مجددا بنسب منخفضة مما يرفع من المديونية العمومية لفرنسا. لكن الخبراء الماليين في فرنسا رفضوا فكرة "إفلاس الدولة" معتبرين أن لها قدرات متعددة لسد ديونها وأن ما ينقصها هو الاستقرار الحكومي.
اعتبرت رئيسة البرلمان أن الرهان الأساسي يكمن في المصادقة على ميزانية جديدة. وهذا يمكن أن يمر عبر "سن قانون استثنائي" يستعمل ميزانية 2024 ولو اقتضى الأمر استخدام البند 49-3 الدستوري لتمريره. وهو ماي يضمن استمرارية التزامات الدولة. ويمكن كذلك البحث في تعيين حكومة جديدة على أن تقدم ميزانية جديدة قبل يوم 11 ديسمبر. وهو شيء يصعب تحقيقه في الوقت الحاضر نظرا للمشاكل السياسية القائمة وقصر الوقت.
إعادة تشكيل المشهد السياسي
الهزيمة التاريخية لإمانويل ماكرون في فشله مع ميشال بارنيه تحتم إعادة تشكيل المشهد السياسي من أجل إفراز إمكانية تكوين أغلبية برلمانية تعطي للدولة بعض الاستقرار في السنوات المتبقية من الفترة الثانية لماكرون. وقد أكد الرئيس الفرنسي مجددا، خلال زيارته للمملكة العربية السعودية هذا الأسبوع، أنه لن ينوي الاستقالة من منصبه. ومن المفارقات أن ماكرون بنى استراتيجياته للفوز بالحكم على فكرة "تجاوز" الأحزاب التقليدية اليسارية واليمينية ليجد نفسه اليوم مهددا من قبل نفس الأحزاب. وكل المؤشرات تدل أن وجوده على رأس الدولة أصبح رهينة تحالفه مع أحد الأحزاب القديمة أي الحزب الاشتراكي. لكن ذلك لن يحصل بدون حل "الجبهة الشعبية الجديدة" وبدون تنازل جسيم ربما يتمثل في تعيين رئيس حكومة جديد من صفوف اليسار الديمقراطي.
هذه الفرضية، التي تستثني الاعتماد على اليمين المتطرف بل تسعى إلى تحييده، تساندها رئيسة البرلمان وكذلك وزير الدفاع، وتجد صدى في صفوف الحزب الاشتراكي بعد أن عبر رئيس كتلته في الجمعية الوطنية بوريس فالو عن مساندته لفكرة المشاركة في الحكم على أن يتم الخوض في المحتوى السياسي قبل البحث عن أسماء. وتدور المناورات في الكواليس بين "الأغلبية الرئاسية" وفصائل اليسار الديمقراطية في "الجبهة الوطنية الجديدة" لتحديد المسائل التوافقية التي يمكن استخدامها لبناء برنامج حكومي تشارك فيه الفصائل التي ترغب في الانضمام له دون اللجوء إلى لائحة لوم من قبل الأحزاب ودون استعمال الحكومة الجديدة البند 49-3 الذي يمرر القوانين بدون نقاش ويقزم في الان نفسه دور البرلمان.
لكن لا أحد يمكن أن يتكهن بما يجري في ضمير المسؤول الأول على البلاد. فمن الممكن أن يبحث ماكرون على حل للخروج من الأزمة بتشكيل حكومة لا يتجاوز عمرها 7 أشهر حتى يقرر حل البرلمان مجددا في شهر جويلية 2025. اعتماد إيمانويل ماكرون على اليمين الجمهوري أظهر محدوديته بسبب اعتماده على حلول تقليدية تراعي متطلبات السوق على حساب الطبقات الشغيلة والفقيرة. لكن فرضية أن يقسم ظهر اليسار بالحاق الحزب الاشتراكي للأغلبية الرئاسية يمكنه من استقرار حكومي لما تبقى من ولايته ويفتح باب النقاش في رئاسية 2027 بدون إدخال الشأن الحكومي في متاهات خلافته في قصر الإليزيه. لكن في آخر المطاف لا أحد يقدر على ولوج قرار "الرئيس المشتري".