فازت بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج المسرحية 2023: "صمت" سليمان البسام ... صخب جمالي وفكري

بادئ ذي بدء، وقبل أن تطأ قدميك عزيزي الحمهور عتبة قاعة العرض

فعليك أن تضع في اعتبارك أن مسرح سليمان البسام هو خارج التصنيف ولا يخضع إلى أي ترتيب، هو فقط فرجة ومتعة وكفى! أمام ركح يبدو وكأنه "روف توب بارتي" (حفل فوق سطح) تتوسط الممثلة حلا عمران الركح في أداء مبهر ومربك، وعن يسارها وعن يمينها الموسيقيان علي حوت وعبد قبيسي في عزف لموسيقى حية على إيقاع نص متوهج الكلمات يتأرجح بين سخرية المعنى ونزف العبرات والعبارات .

في ترجمة لعلاقته الخاصة بأيام قرطاج المسرحية، اختار المخرج سليمان البسام أن يهدي تونس العرض العالمي الأول لمسرحيته " آي ميديا" في سنة 2021 فمنحته تونس عن استحقاق ثلاثة جوائز: جائزة أفضل نص وجائزة أفضل سينوغرافيا للفرنسي إيريك سواييه وجائزة أفضل ممثلة للسورية حلا عمران. وفي سنة 2023 ، جدّد هذا المخرج المسرحي عهد الحب ووعد الجمال مع أيام قرطاج المسرحية، فعرض على ركحها العرض العالمي الأول لعمله الجديد" صمت" فنال للعام الثاني تتويجا ثلاثيا: جائزة التانيت الذهبي وجائزة أفضل نص و جائزة أفضل أداء نسائي التي نالتها عن جدارة وللمرة الثانية حلا عمران.

انفجار مرفأ بيروت يفجّر جماليات "صمت"

في تحطيم لصنم المسرح الإغريقي وفي تجاوز لكلاسيكيات الخشبة، جاء نص سليمان البسام في عرض "صمت" متمردا على كل القوالب الجاهزة والأنماط المعتادة، ومنفلتا من عقال الأبجديات والتيارات والجماليات المتكررة والمكررة. في متون لغة الضاد انساب النص بمنتهى السلاسة كالماء، وتسرب بمنتهى المرواغة كالسراب... لكن مرة أخرى نجح صاحب النص في تحرير كلماته من اللغة الخشبية ليبعث في أحشائها روحا معاصرة وليلبسها ثوب الطرافة ولينطقها بلسان السخرية التي تبلغ أقصى الأقاصي كلما تفاعل معها الجمهور أكثر فأكثر !
كان انفجار مرفأ بيروت في أوت 2020 باعتبار أضخم انفجار غير نووي في التاريخ منطلقا لانفجار عرض "صمت" ركحيا وجماليا وفكريا على ركح المسرح ليخلّف من ورائه زوبعة من الأسئلة ومن التأملات حول ماهية المسرح السياسي الملتزم وجدوى دور المثقف العضوي في المجتمعات . يقول المخرج سليمان البسام:" أمام تذويب المفاهيم السياسية لليسار ولليمين، وبمواجهة التغييرات الجذرية في خارطة النحالفات الجيو سياسية في المنطقة ، وبمواجهة العنف المتصاعد والتضليل الإعلامي غير المسبوق ، نسأل أنفسنا عن الأشكال المحتملة للمقاومة الفنمية ، وما هو تعريف فعل المقاومة الفنية اليوم؟ وإن تخلينا عن أدواتنا التقليدية المعهودة (الحدث والسرد والشخصيات) وتخيلنا – تحديدا- الفعل المبني على الصمت المطلق كأداة للمقاومة، ماذا سنكتشف؟"
سواء تحدث الكاتب والمخرج الكويتي سليمان البسام عن مأساة الإنسان في بيروت أو في فلسطين أو في أي وطن يعيش المعاناة، فإنّه يعدّل بوصلة هاجسه الفني وهمه الإنساني ضمن المعادلة التالية: عدم الاستخفاف بحجم الوجع وبخطورة الحدث من جهة، وعدم الاستهانة بذكاء الجمهور من جهة ثانية.
يحسب صاحب "صمت" ألف حساب قبل لقاء عشاق الفن الرابع، وحسبه في ذلك نثر معاني الحرية وبذور الجمالية على الخشبة ليلتقطها الجمهور ويعيد التفاعل معها على طريقته ... وعلى هواه !

 

حلا عمران... ساحرة المسرح
هي امرأة من نار ونور... تلهب الحواس والأحاسيس كجمرة ملتهبة إبداعا على الخشبة، وتأسر الأنظار والوجدان في هالة مضيئة كقمر يرنو إلينا من علياء سمائه أو من فوق علو ركحه! كيف للممثلة والمغنية حلا عمران أن تحمل النص مثل رضيع بين يديها فتهدهده على نغم صوتها كحلم وكأمل؟ وكيف لها أن تلتبس بعمق الكلمات فتحملها بين ضلوعها وجعا وألما ؟ من أين جاءت حلا عمران بكل هذه الطاقة الجبارة لتزعزع الركح تحت قدميها ومن حولها ولتهز الجمهور بإشارة من يديها أو بإيماءة من جسدها أو بأغنية أو بصرخة أو بضحكة... ؟
لم يخطئ المخرج سليمان البسام في المراهنة على هذه الفنانة السورية لتكون بطلة عرضه "صمت"، ولم تخيّب حلا عمران أمله فكانت كما يريد وأكثر! وحتى قبل الإعلان عن جوائز أيام قرطاج المسرحية 2023 ، أجمع المسرحيون والنقاد والجمهور على براعة هذه الممثلة في القفز بجسدها وبروحها خارج مدارات النص وحدود المكتوب والمنطوق لتحبس الأنفاس وتشخص إليها الأبصار كلما تكلمت أو غنت أو رقصت أو بكت... لقد استحقت حلا عمران عن جدارة جائزة أفضل أداء نسائي بعد أن تركت بينها وبين المنافسة مع الممثلات الأخريات مسافة كبيرة من الإبداع والإقناع والرفع من سقف الفن عاليا... عاليا !
على ركح عرض "صمت" تجلّت حلا عمران في أكثر من دور ومن صورة ومن صفة في إثبات لأكثر من موهبة. فإذا بها تنسج حول طيفها أكثر من رمزية... فهل هي آلهة؟ أم هي أسطورة؟ أم هي عاصفة؟ أم هي زغرودة فرح؟ أم هي مرثية أم ثكلى؟ أم هي مستهترة ؟ أم هي فيلسوفة؟
ببساطة إن صمتت حلا عمران في "صمت" أو نطقت حكمة أو ضجت بالأسئلة، فإنها في كل حالاتها وأحوالها مذهلة !

مسرح سياسي ... نفس شاعري .. طرح مجدد

في "صمت" اختار سليمان البسام اللعب على حد السيف في مقاربة القضايا الراهنة وشواغل الإنسان المعاصر دون أن يطلق أحكام أو أن يرسل مواعظ بل أرخى للجمهور الحبل في تقرير مصيره. فإمّا أن يكون هذا الحبل طوق نجاة وإما أن يكون قيدا يخنق الأنفاس ويكبّل كل الحريات.
يمتلك سليمان البسام أسلوبا مميزا في الكتابة يجعل نصوصه قريبة من كل الفئات وعابرة للأمكنة وللأزمنة حتى وإن كان عنوانها "صمت"، فوراء هذا الصمت صخب جميل وضجيج مثير للسواكن والمسلّمات الراكدة والبديهيات السائدة.
وقد تمت إقامة ورشة النص في تونس بالتعاون مع مؤسسة المسرح الوطني التونسي خلال شهر مارس 2023 على هامش مهرجان "تونس مسارح العالم". كما يشرف التونسي أسامة الجامعي على إدارة الإنتاج في عرض "صمت".
في "صمت" انتشر صدى موسيقى مجموعة "التنّين" بإمضاء المبدعين علي حوت وعبد قبيسي لتمنح هذه الموسيقى الحية بعدا ثالثا للعرض. كما جاءت السينوغرافيا والإضاءة بإمضاء الفرنسي الشهير "إيريك سواييه" مترفعة عن البذخ والثرثرة ومقتصرة على المفيد والجميل في نقل المعنى ورصد الانفعالات والتحولات الدرامية في احتكام إلى ساعة معلقة أعلى الركح يتغير توقيتها ولون إضاءتها وفقا للتسلسل الدرامي للأحداث وفق تحكم المخرج في عدد دقات عقاربها... وقد فسح سليمان البسام مكانا للجلوس لجمهوره فوق الركح على اليمين وعلى اليسار ليكون جزءا من اللعبة المسرحية، وليكون شاهدا عن قرب على ولادة لحظة الإبداع من رحم "الصمت" والعدم لتنفجر بعثا جديدا وأملا في حياة أجمل !
ولأن "صمت" عرض يصعب تحديده ضمن خانة معينة أو مناخ بعينه، فقد حمل بعدا تحليليا ونفسا توثيقيا في تفكيك انفجار مرفأ بيروت حيث استمع الجمهور إلى شهادات صوتية لكل من الدكتور "راسل أوغل" المهندس الأمريكي المتخصص في هندسة الانفجارات وإلياس فرحات العميد المتقاعد في الجيش اللبناني.
أمام جماليات عرض "صمت" لسليمان البسام التي تتحدّى الصمت لتستقر في الذاكرة كوشم على ركح مغاير يقترح مسرحا جديدا ومتجددا، قد تموت الكلمات في طريقها لمحاولة قراءة هذا العرض الإبداعي، فيكون الصمت بدوره خيارا وموقفا طالما أنّ "الصمت في حرم الجمال جمال" !

 

المشاركة في هذا المقال

تعليقات103

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115