فكلما زرت مدينة كنت وكأنني لم أغادرها قط وإن التقيت صديقا وكأني معه وإن رأيت امرأة وكأني عشقتها منذ خلقت نفرح لكل أمل أو زهرة تتفتح في أي بلد مغاربي ونتألم لكل مصيبة أو هزيمة تنزل به. نسرع لنقرأ آخر أبيات شعرائنا ولنتصفح مجلات وإصدارات كتابنا ونغوص في جديد روائيينا وخاصة ندندن نفس الأغاني وأغاني من المغرب وموريطانيا والجزائر وتونس وليبيا ونهيج رقصا لا ينتهي وتلتقي فيه الأجساد وتلتهب المشاعر على أنغام أغانينا.
وهذه الحالة الشعورية وهذا الوجد هو نتيجة لتاريخ طويل يمتد على مدى قرون وساهمت عديد العوامل في تشابك المسارات لتخلق ذاتا واحدة ومصيرا مشتركا. العامل الأول والأساسي هو حركة الناس في ترحالهم وتنقلاتهم من بلد لآخر واستقرارهم لتصبح عديد العائلات متواجدة في جهات عديدة من هذا الوطن الكبير. وتشابه هذه العلاقات الاجتماعية خلق تراثا ثقافيا فنيا مشتركا. كما خلق كذلك عادات مشتركة في الأكل والشرب والملبس كما ساهم الفكر في تنمية هذه الحالة الشعورية فقد ورثت بلدان المغرب بحكم قربها من التاريخ الفكري الأندلسي والقراءات النقدية للتراث الإسلامي الذي أسسه ابن رشد نظرة منفتحة تدافع عن مبدإ فصل الدين عن السياسة والذي شكل على مدى عقود أحد ركائز الحركة الإعلامية والحركة الوطنية في المغرب العربي ونجد هذه التوجهات الكبرى في الدراسات الإسلامية
في المغرب الكبير وعند أهم رموزها مثل محمد عابد الجابري في المغرب ومحمد أركون من الجزائر وهشام جعيط ومحمد الطالبي وعبد المجيد الشرقي من تونس وساهم هذا الموروث الفكري المشترك في نفس معالم الحركات الوطنية واختياراتها السياسية المدافعة عن الإصلاحات السياسية والاقتصادية وأفكار الحداثة والحرية والانفتاح على الآخر.
ولعبت السياسة كذلك دورا مهما في تنمية الانتماء المشترك لشعوب المغرب العربي وبصفة خاصة في فترة الحرب ضد الاستعمار فانخرطت الحركات الوطنية في بلدان المغرب الوطني في حلم التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي وبناء الدولة الحصرية ولم يكن هذا النضال منفصلا بل كان مشتركا في إطار لجان تنسيق بين مختلف حركات التحرر الوطني ومن ضمنها كان مكتب المغرب العربي في القاهرة والتحمت في هذه الفترة أحلام وآمال شعوب المغرب بالتحرر وبناء مصير مشترك وحتى دماءهم في محاربة العصابات الفاشية وجيوش الاستعمار ولعل اختلاط دماء التونسيين والجزائريين في الاعتداء الاستعماري في ساقية سيدي يوسف هو أهم دليل على هذا الاختلاط والاندماج.
إذن التقت السياسة بالتاريخ وتقاطع الفكر بالفن والأحلام اليومية وآمال التحرر للجعل من الذات المغاربية لا فقط موقفا سياسيا بل موقفا وجدانيا ومعه الشعورية هذه الحالة عشتها مساء 22 جويلية 2016 عند متابعتي .....الغوسطو (El gusto ) على مسرح مهرجان الحمامات الدولي وتجربة المتوسط هي قبل أن تكون فرقة موسيقية الفن الجزائري المعروف بالشعبي قبل كل شيء مغامرة شريط سينمائي تابعته وكتبت عنه في مجلة réalité منذ سنوات وكاد ان لا يرى النور لولا عزيمة مخرجته الجزائرية صافينار بوصبيع.
وانطلقت هذه المغامرة ذات يوم من سنة 2008 عندما كانت صافيناز بوصبيع تتفسح في الأحياء القديمة للقصبة في مدينة الجزائر والتقت خلال هذه الفسحة ببائع بلور ومزوق في أحد الدكاكين العتيقة والتي تعبق برائحة التاريخ والزمن وقد زوق صاحب الدكان للجدران بصور قديمة لفرقة موسيقية وعازفين اصفرت أعوانها من فرط القدم وما لم تعلمه في تلك اللحظة الشابة الجزائرية والقادمة من لندن أين تعيش أنها في حضرة محمد الفر كيوي أحد أكبار العازفين في فرقة الغوسطو المشهورة لفن الشعبي والتي اندثرت منذ عقود بعد رحيل أغلب أعضائها من الجالية اليهودية إثر استقلال الجزائر وإذ لاحظ اهتمام الشابة بهذه الصور القليلة التي تزين الحائط أخذ الشيخ محمد أحد ألبومات الصور التي يحفظها بكل عناية بإحدى الخزائن في الدكان وانطلق مع الصور يقص لصافيناز حكاية الغوسطو والتي تختزل لوحدها تاريخ فن الشعبي في الجزائر وما لم يعرفه محمد الفركيوي في تلك اللحظة هو أن هذا اللقاء العابر سيكون نقطة انطلاق لتجربة فنية هامة تعيد للشعبي شيئا من وهجه وستسمح الكثير من التراب الذي غيّب غطاه.
وترجع بدايات هذا الفن إلى أوائل القرن العشرين في مدينة الجزائر وبالتحديد في الحي الشعبي القصبة وقد ولد هذا النوع من الغناء في تقاطع بين عديد الأنواع الموسيقية وتأثيراتها كالموسيقى العربية الأندلسية والملحون والعروبي والتراث الموسيقي البربري.
وقد أدخل عليه أوائل الملحنين بعض تأثيرات الموسيقى الأوروبية وحتى الإفريقية الشائعة في تلك الأيام وقد شمل التجديد في هذا النوع الموسيقي الجديد الآلات الموسيقية التي يقع استعمالها فإلى جانب الآلات التقليدية كآلات الإيقاع المختلفة والعود والقيتارة والناي والقانون والكمنجة أدخلت موسيقية الشعبي عديد الآلات الأخرى كالماندولين والسانجو وغيرهما.
وقد عرف الشعبي شهرة كبيرة بداية من عشرينات القرن الماضي ليصبح أحد أهم الأنواع الموسيقية التي يتغنى بها شباب الجزائر في أفراحهم وسهراتهم.
وقد ساهم الشيخ محمد العنقة في تطور هذا الفن وذيوع صيته وقد التحق الحاج العنقة منذ الأربعينات بدار الإذاعة التي افتتحت أبوابها حديثا ليقود إثر ذلك الفرقة الشعبية الأولى للإذاعة لتتتلمذ على أياديه أجيال كبيرة من فناني الشعبي وقد ساهم الشيخ العنقة مساهمة كبيرة في تطور هذا الفن على مدى خمسين سنة إلى درجة أن العديد يعتبرونه اليوم أب «الشعبي» وقد لحن وأعد محمد العنقة الكثير من أهم أغاني الشعبي كــــ»سبحان الله»، «الحمد لله»، «الإمام» «يالي ما تدير في الحب» و»قولوا لليامن» وغيرها..
وإلى جانب الحاج العنقة ساهم دحمان الحراشي في تطور الشعبي في الجزائر وصار أحد أهم مغنيه وقد اشتهر الحراشي بصفة خاصة بأغانيه النقدية لظاهرة هجرة العمال والشباب الجزائري إلى فرنسا للعمل بداية من السنوات الخمسين في القرن الماضي. وهو الذي لحن أغنية «يا رايح» المعروفة والتي عرفت انتشارا كبيرا بعد إعادة غنائها من قبل الفنان رشيد طه في السنوات الأخيرة في الجزائر وقد توجه في هذه الأغنية الفنان دحمان الحراشي إلى أحد أصدقائه الذي اختار الهجرة مقتنعا أنه سيجد حياة أفضل في فرنسا ويقول له:
يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي
شحال ندموا العباد الغافلين قبلي وقبلك
شحال شفت البلدان العامرين والبر الخالي
شحال ضيعت وقات وشحال تصيد وشحال تصيد مازال تخلى
ياالغاليبة في بلاد الناس شحال تعيا ما تجري
بيك وعد القدرة ولا الزمان وأنت ما تدري
لقيت هذه الأغنية رواجا كبيرا لدى جمهور المهاجرين من أجيال ومن جنسيات مختلفة لقدرتها على التعبير في كلمات بسيطة عن آمالهم وأحلامهم المغدورة وصعوبة العيش والتأقلم في مجتمعات ديدنها الربح وقول المنافسة والفرد وتجهل العلاقات الاجتماعية والجماعية التي عاش عليها وتربى حولها هؤلاء المهاجرون في بلدانهم.
عرف «الشعبي» منذ بداياته الأولى نجاحا منقطع النظير ليصبح النوع الموسسيقي الأشهر في الجزائر وهذا النجاح في رأيي نتيجة عديد العوامل أولها أن هذا النوع كان لقاء بين مختلف الجنسيات والأديان والثقافات التي تعايشت في تلك الفترة في حي القصبة بالجزائر العاصمة لقد كان الفن وبصفة خاصة الفن الشعبي مجالا وفسحة مكنت الإيطاليين والجزائريين والفرنسيين واليهود والمسلمين من تجاوز الحدود السياسية والعنصرية التي وضعها الاستعمار للتعايش والاختلاط وبناء حلمهم المشترك فكانت فرق الشعبي تتكون من هذه الجنسيات والديانات المختلفة كما كانت الألحان تنبع وتتغذى بالموروث الموسيقي المختلف لهذه الشعوب والأقليات لتجعل من الموسيقى نقطة لقاء بين الحس والمشاعر القادمة من دروب مختلفة.
وقد نجح الشعبي كذلك لأنه عرف كيف يغور في غياهب الروح الجزائرية ليستقر آمالها وأحلامها ودروب العشق والوجد والألم والحزن الكامنة فيها. نجحت موسيقى الشعبي في الغوص في أعماق الذات الجزائرية وتمكنت بالرغم من حدة الطباع في مخاطبة الروح لتفتحها على الآخر وتلتقي معه في رومانسية ووحدة كما في حزنه وآلامه من خلال ألحان وأنغام مكنتها من تجاوز الكآبة والذاكرة الحزينة. نجحت موسيقى الشعبي في مخاطبة الروح وجعلت من هذا اللقاء هدفها تداعب الأمل والحلم فيها وتقاوم الحزن والألم حتى لا يطغيا على مكنون الحب والعشق والوجد.
وتواصلت رحلة الشعبي مع الذات بعد الاستقلال وسيطيو عليها موضوعان الأول هو حرفة بعض الأقليات كاليهود وبعض الفرنسيين والذين اضطرتهم مقتضيات السياسة إلى الخروج نهائيا من البلاد التي لم يعشقوا أحدا غيرها ليواصلوا مع الشعبي بكاء هذا الغياب وهذه الفرقة في قصائد وأغان كلها ألم ولوعة والثاني هو معاناة المهاجرين أمام انتفاء حلم الجنة الموعودة والتي لم تخلف إلا عنصرية وأمراضا ووحدة وأمل مغدور.
لقد حاولت صافيناز بوصبيع بعد لقائها مع محمد الفركيون إعادة كتابة كل هذا التاريخ ورحلة «الشعبي» مع آمال وأحلام وأحزان وخيبات أمل الذات الجزائرية في تقاطعها مع السياسة والتاريخ وقامت بعد ثلاث سنوات من البحث والتنقيب حيث زارت كل البلدان التي تناثر واستقر فيها فنانو الشعبي بعد خروجهم من الجزائر بإعداد ما أعتبره شخصيا أحد أهم الأفلام الموسيقية في العالم وأعتقد شخصيا أن شريط « le gusto » هو بمستوى فيلم « Buera vista social club » الذي أخرجه الألماني الكبير Wim Wendon والذي أعاد إلى الوجود هذه المجموعة الموسيقية الكونية بإعانة المنتج الكبير Rg cooder والذي ساهم مساهمة كبيرة في إعادة الاهتمام لعديد موسيقيات العالم الثالث.
وبالرغم من صعوبة الإمكانيات وشحنها فقد نجحت صافيناز بوصبيع في إعداد الفيلم الذي خرج على الشاشات سنة 2012 والذي عرف نجاحا كبيرا وتحصل على عديد الجوائز في مهرجانات دولية كبرى.
ولكن الأهم هو أن هذا الفيلم أعاد الاهتمام إلى مجموعة El gusto وإلى الفن الشعبي وقد انطلقت المجموعة في عروض على المستوى العالمي وكان آخرها في مدينة الحمامات فيلم «القوسكو» وموسيقى الشعبي يشكلان لحظتين هامتين تؤكدان أن الانتماء لهذا المغرب الكبير هو قبل أن تكون موقفا سياسيا هي حالة عشق وهيام وذوبان في الآخر والشعبي كالموسيقى الشعبية في البلدان المغاربية الأخرى يمكننا من زيارة الروح الجزائرية واستقراء مواطن الألم والحزن فيها وفي نفس الوقت مجالات الحلم والفرح خاصة في لقائها بالآخر القريب في المغرب الكبير وتوقها إلى بناء مصير مشترك معه.