وقد انطلقت جمعية الجامعة المفتوحة في العمل بمبادرة من كلثوم السعفي والزين حمدة وبدعم من عديد المثقفين التونسيين والأجانب في نهاية 2014. وتهدف الجمعية إلى نشر المعرفة والعلم وبث قيم الحرية والجمهورية ومبادئ الأنوار وحقوق الإنسان. وتعمل هذه الجمعية على تنظيم عديد التظاهرات في تونس العاصمة وبعض المدن الأخرى.
وكانت نقطة انطلاق أنشطة هذه الجمعية في فيفري 2015 من خلال تنظيم تظاهرة هامة بعنوان «مهرجان المعارف» في المكتبة الوطنية. وقد قام المشاركون بعملية جرد لما وصلت إليه المعارف والعلوم الاجتماعية والإنسانية من نتائج وتحاليل خاصة في ارتباط بعملية التحول الديمقراطي وتحدياته. وقد كان هذا اللقاء الأول ناجحا لا فقط من حيث المحتوى بل كذلك من ناحية المحاضرين حيث نجح المنظمون في دعوة وجلب أهم الأخصائيين في مختلف الميادين.
ونجحت الجامعة المفتوحة بالرغم من محدودية الإمكانيات في تنظيم بعض التظاهرات الأخرى أذكر منها تظاهرة «تونس العلم محفلها» أيام 6 و7 نوفمبر 2015. ثم بدأت في تنظيم الجامعة الصيفية الأولى في بنزرت في صائفة 2016 وشملت برنامجا طموحا على مدى أسبوعين نجح في استقطاب كثير من المثقفين والمحاضرين.
وفي حديثي مع الصديقين كلثوم والزين أكدا لي أن للجامعة برامج ومشاريع لتظاهرات جديدة ستؤكد قيمة الفكر والعلم في بلادنا في فهم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نمر بها. ومن بين هذه التظاهرات أشير إلى تظاهرة موسم الفلسفة الدولي والتي سيتم تنظيمها في المعهد الصادقي لتأكيد انخراط الجامعة المفتوحة في مشروع الحداثة. كذلك ستسعى الجامعة المفتوحة إلى تنظيم تظاهرات أخرى كتظاهرة «كتاب لكل مواطن» بدعم من معهد العالم العربي وبالتعاون مع وزارة التربية وتظاهرة «موعد مع التاريخ» على غرار تظاهرة « Les Rendez-vous de l’histoire » والتي تنظم سنويا في مدينة Blois الفرنسية إلى جانب عديد التظاهرات الأخرى وتركيز الجامعة الصيفية في مدينة بنزرت لتصبح موعدا سنويا يلتقي فيه المفكرون والمثقفون مع جمهورهم لنقاش تحديات العالم والإجابات التي يجب تقديمها لبناء تجربة إنسانية جديدة.
وبرنامج الجامعة الصيفية في دورتها الثانية لهذه الصائفة والتي تمتد من 9 إلى 20 جويلية كان دسما ومتنوعا وثريا. وتراوحت الحصص والنقاشات بين القضايا السياسية كـــ»الحوار الوطني» والتكنوقراط والديمقراطية كــــ «الاستقلال: ستون سنة وبعد؟» والاهتمامات الاقتصادية كـــ»أزمة الليبيرالية: إثباتات الحالة والحلول» والتاريخية كـــ»55 سنة مضت على معركة بنزرت» والمسائل الدينية كـــ»أضواء على المسألة الدينية في تونس» و»الدين ونشر الديمقراطية بين شعوب البحر الأبيض المتوسط» و»هل يمكن الفصل بين المدني والديني في المجتمعات الإسلامية؟» إلى جانب عديد المواضيع الفكرية الأخرى. كما كان للثقافة مكان مميز في هذه الجمعية التي خصصت حصصا للاحتفاء بشاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش. وما أريد الإشارة إليه من خلال دعوتي هو الإعداد الجيد لكل الحصص لا فقط من قبل المحاضرين بل كذلك من قبل المناقشين وأريد أن أثمّن بالقراءة القيّمة التي قام بها الصديق بوبكر بنّور لكتابي «أحلام شرقي».
كان لي حديث مستضيف مع الصديق الزين حمدة قبل محاضرتي وبعدها وقد أشار بصفة خاصة إلى العوائق التي تقف أمام تطور عمل الجمعية وأنشطتها المتعددة والتي تعمل بالأساس لتطوير دور المعرفة والعقل في تحليل وقراءة التحديات والمعوقات أمام التجربة الديمقراطية في بلادنا. ولئن لبّى المثقفون والمفكرون الدعوة ودعموا المبادرة فإن ضعف الإمكانيات وبصفة خاصة المالية منها لا تسمح بتطور أنشطة الجامعة وهذه دعوة للوقوف إلى جانب هذا الهيكل الهام ودعمه.
ومن الغد طالعت صحيفة Le monde الفرنسية والتي خصصت صفحتين بالتمام والكمال وهو ما يعتبر حيّزا استثنائيا من قبل هذه الصحيفة للحديث عن تجربة جامعة صيفية أخرى في فرنسا وهو ما يسمى بلقاءات بيترارك « Les Rencontres de Pétrarque » في مدينة مونبيلي الفرنسية. وبيترارك هو شاعر وصل إلى مدينة مونبيلي سنة 1316 ودافع عن برنامج إنساني للحوار بين الأديان والعلم والمعرفة وكان له تأثير كبير على أوساط المثقفين والمفكرين في العصر الوسيط. وتخليدا لذكراه قامت إذاعة فرنسا الثقافية France Culture وجريدة لوموند بتنظيم جامعة صيفية يلتقي فيها أهم المفكرين الأوروبيين للتفكير حول التطورات الكبيرة التي يشهدها العالم ومحاولة فهمها وإعطاء شيء من المعنى.
وتحتفل هذه الجامعة الصيفية بعيد ميلادها الثلاثين هذه السنة واختارت شعارا « Débattre » أو لنتناقش» واختارت عديد المواضيع الهامة والمحاور الأساسية لفهم أزمة المجتمعات المعاصرة وتنامي العنف والإرهاب والخوف من المستقبل. ونجد من بين هذه المحاور «ثلاثين سنة من المناظرات في فرنسا»، «تجاوزات فكرة التقدم»، «التوجه في عالم متغير»، «مساءلة فرنسا وقيمها» أو «إعادة إنتاج السياسي». ونجحت هذه الجامعة الصيفية كعادتها في استقطاب ودعوة أهم المثقفين الفرنسيين كــ ـAlain Finbielkraut و Rachid Benzine وThierry Pech وغيرهم.
وحضوري في الجامعة الصيفية في بنزرت وقراءتي لمقال جريدة لوموند حول الجامعة الصيفية لبيترارك في مدينة مونيلي جنوب فرنسا دفعاني إلى التفكير والعودة إلى معلوماتي القديمة حول الجامعات الصيفية والدور الذي لعبته في المجتمعات الديمقراطية.
وفكرة الجامعات الصيفية ليست جديدة في المجتمعات الديمقراطية وهي تحاول إعادة إنتاج فكرة انزواء المثقفين ورجال الدين في المجتمعات القديمة لتأمل العالم ومحاولة إيجاد الإجابات حول تحدياته وصعوباته. وقد تبنى مثقفو المجتمعات الحديثة فكرة الانزواء والابتعاد عن ضجيج وحركة العالم للتفكير والتأمل وتم تجسيد هذه الفكرة في الجامعات الصيفية. وظهرت هذه الجامعات إثر الحرب العالمية الثانية وعملت عديد الجمعيات على إيجاد هذه الفسحة لرجال الفكر للاختلاء والتفكير في قضايا العالم. وأذكر من هذه الجمعيات « La société du Mont-Pèlerin » والتي كوّنها الاقتصادي فريد يرك هاياك أب الاقتصاديين الليبراليين وزعيم اقتصاد السوق في شهر أفريل 1947 وقررت هذه الجمعية جمع الاقتصاديين الليبراليين والمدافعين عن اقتصاد السوق للصمود أمام هجمة وهيمنة الفكر الكينزي والمدافع عن تدخل الدولة والرافض لفكرة اقتصاد السوق. وصارت هذه الجمعية تعقد اجتماعات سنوية أو جامعات صيفية لتنظيم صفوف الاقتصاديين الليبراليين وضبط برامجهم التحسيسية ضد الكينزيين في شهر سبتمبر من كل سنة في قرية Mont pèlerin في الجبال السويسرية.
ولكن الجامعات الصيفية ستعرف تطورا كبيرا في بداية سبعينات القرن الماضي إثر الثورات الشبابية في أوروبا والعالم. وستصبح هذه اللقاءات الصيفية ليست من نصيب المثقفين والمفكرين فقط بل ستشمل كذلك الأحزاب السياسية وبصفة خاصة الأحزاب اليسارية والمنظمات النقابية. وستصبح هذه الجامعات الصيفية عادة سنوية يؤمها مئات المفكرين والمناضلين السياسيين للتفكير في التحديات السياسية والقضايا المطروحة.
ولم يكن تنظيم الجامعات الصيفية مقتصرا على فرنسا والبلدان الأوروبية فقد عرفت عديد البلدان النامية تنظيم هذه التظاهرات وتم تنظيم جامعات صيفية في بلادنا على هامش مهرجان الحمامات الدولي بدار سيبستيان والتي أصبحت مقرا لاحتضان المثقفين والمبدعين للحوار والنقاش إلا أن الجامعة الصيفية الأشهر في بلادنا كانت تلك التي تم تنظيمها على هامش مهرجان طبرقة الدولي والتي بقي شعارها إلى اليوم معروفا وهو « Ne pas bronzer idiot » أو «لا تتشمس ببلاهة» وتمكنت هذه الجامعة من استقطاب أهم المفكرين والمبدعين في العالم.
وكانت هذه الجامعات الصيفية مرتبطة بالفكر اليساري السائد في تلك الأيام وثقافة الرفض الشبابي ومحاولة بناء مشروع سياسي مناهض للرأسمالية وعلاقات الاستقلال. وقد ارتبط هذا المشروع السياسي على المستوى الفلسفي بالفكرة القائمة على التقدم وأن حركة التاريخ تصير حتما وتتطور نحو الأفضل ونحو تحرير الإنسان من العلاقات الاجتماعية الاستغلالية السائدة في المجتمعات الرأسمالية. وكان لهذه الفترة التاريخية العديد من مفكريها العضويين الذين انصبّ همهم في كتاباتهم وفي محاضراتهم في الجامعات الصيفية على تفكيك ونقد المجتمعات الرأسمالية ونحت معالم العالم الجديد والذي سيخرج من رحم ومن أحشاء أزمات المجتمع الرأسمالي.
إلا أن هذا الفكر سيشهد تراجعا كبيرا في الثمانينات مع صعود العولمة الاقتصادية والتي فتحت آفاقا جديدة للنظم الرأسمالية. وعلى خلاف ما تنبأ به المثقفون اليساريون أو العضويون كما كنا نسميهم في تلك الأيام فلم تكن الثورات الاجتماعية والعمالية هي البديل لأزمات النظام الرأسمالي بل فتحت العولمة الاقتصادية مجالات جديدة لتصبح الأسواق العالمية هي المدى الجديد للرأسمالية العابرة للقارات والتي تجاوزت مجال الدولة الوطنية.
هذه الثورة الاقتصادية والسياسية نتج عنها تراجع هام للمثقف الثوري أو العضوي وبصفة خاصة لفكرة التقدم وتطور حركة التاريخ نحو التحرر السياسي والاجتماعي. وتراجع بريق المثقف العضوي والشامل ليشهد العالم والنقاش العام صعود ما سماه ميشال فوكو بالمثقف الخصوصي « Intellectuel spécifique » والخبراء وبصفة خاصة الاقتصاديين والذين أصبح همهم ليس التفكير في المعضلات الكبرى كما كان يقوم به المفكرون العضويون بل التفكير في قضايا خصوصية ومسائل تقنية لا تهم جوهر النظام وأسسه بل بعض جزئياتها للخروج منه والثورة عليه بل لتحسين أدائه وطرق عمله.
وعرفت سنوات الثمانين والتسعين تراجع المثقفين أمام هيمنة وصعود الخبراء وبصفة خاصة الاقتصاديين. كما تراجع دور الجامعات الصيفية وانحسر تأثيرها الفكري وأصبحت مجالا للقاءات سياسية عادية وصار همّ المثقفين في السياسيين هو نقد الاستبداد (anti totalitaire ) الذي أدت له كل تجارب التحرر الاجتماعي والتغيير الثوري كما كان عليه في أوروبا الشرقية وعديد التجارب الاشتراكية الأخرى.
إلا أن هينة ما يسميه بعض الفلاسفة بالفكر اليومي لم يمنع ظهور أزمات كبرى في النظام العالمي. وأبرزت العولمة حدودها ونقائصها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فالرفاه الاقتصادي الذي أتت به ولّد فراغا فكريا وسياسيا كان من نتائجه صعود العنف والإرهاب.
كما عرف العالم كذلك صعود الفوارق الاجتماعية وتهميش البلدان الفقيرة. إذن لم تنتج العولمة الاقتصادية ونهاية الدولة الوطنية الرفاه والتعايش السلمي الذي وعدت به بل بالعكس صار العالم أقل أمنا ومثيرا للخوف وفي بعض الأحيان لليأس.
هذه التحديات الجديدة بل قل فشل العولمة كان وراء عودة المثقف العضوي وعودة التفكير في عملية التغيير الاجتماعي. لكن هذه المرة التغيير لا ينخرط في إطار أو في مدى ثوري كما كان ذلك في السنوات السبعين بل أصبح ينخرط في إطار المجتمعات الديمقراطية وفكرة بناء الديمقراطيات. وفي هذا الإطار عاد بريق الجامعات الصيفية كمجال للتفكير في البناء الديمقراطي وربطه بصورة عضوية بمشروع التحرر الإنساني.
يعيش العالم اليوم وبلادنا التي فتحتها الثورة على الثقافة السياسية الكونية فترة مخاض كبرى فلئن وُجد إجماع على جعل الديمقراطية أفق العمل والبرامج السياسية والتغيير الاجتماعي فإن تجارب البناء الديمقراطي أوجدت معضلات جديدة وتحديات كبرى لعل أهمها ربط الديمقراطي بمشروع تحرر الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة. وفي رأيي تبقى هذه المسائل محل جدل وتفكير عميقين تؤكد أهمية الجامعات الصيفية وضرورة جعلها أطرا للتفكير في السياسات والخيارات القادرة على ربط الديمقراطية بالتحرر والانعتاق والاندماج الاجتماعي للخروج من دائرة العنف وبعث الأمل من جديد في العالم.